قال: فأَما التخيل فهو حس ضعيف، يفعل أَبداً إِما ذكراً، وإِما تأَميلا. وإِذا هو عَدِمَ الذكر، عَدِمَ التأميل. وذلك أَن التأميل هو ترتيب ممكن في المستقبل لأَشياء قد أَحست في الماضي وهو الذكر فمتى ارتفع الذكر ارتفع التأميل ضرورة. وإِذا كان التخيل حسا ما، فبيّن أَن اللذة إِنما توجد في الذكر والتأميل لأَنهما شيءٌ من الحس، حتى تكون اللذات كلها إِنما توجد اضطرارا في الحس. وذلك أَنه إِذا كانت المحسوسات حاضرة وبالفعل، كانت اللذة في مباشرتها وإِحساسها، وإِذا كانت فيما سلف، كانت اللذة في ذكرها؛ وإِذا كانت فيما يستقبل، كانت اللذة في التأميل. وذلك أَن الحس يختص بالأُمور الحاضرة، والذكر بالسالفة، والتأميل بالمستأنفة. والمدركات اللذيذة ليست هي القريبة من الزمان الحاضر فقط، بل قد يكون بعض الأَشياء كلما قرب عهده يوجد غير لذيذ، وإِذا بعد عهده وجد لذيذا. لأَن القريب كالمملول، والبعيد العهد يصير عند الذاكر أَحسن وأفضل لبعد عهده به فيشبه التأميل. وذكر المرء الكد والنصب الذي قد انقضى وتخلص منه لذيذ. وذلك أَن الرجل الكدود الحريص يلتذ بذكر الكد والتعب، إِذا كان قد أَنجح سعيه فيه أَو نجا به من الشر. فإِن النجاة من الشر أَيضا علة للذة. وأَما الأَشياءُ الملذة التي تؤمل فهي التي إِذا كانت قريبة سرت أَو نفعت، وذلك بأَن تظن جليلة أَو نافعة مع جلالتها إِذا كانت منفعتها ليس يلحق فيها أَذى. وبالجملة فالمؤملات الذيذة هي القريبة من الزمان الحاضر السهلة الوجود. ولذلك كان الغضب لذيذا، وذلك أَن الغضب إِنما يكون إِذا أَمل الإِنسان إِيقاع الشر بالمغضوب عليه، وكان مع ذلك ممكن الوقوع. ولذلك قال أُوميروش فيه: إِنه أَحلى من قطرات العسل. ولكون الغضب إِنما يكون إِذا كان الانتقام ممكنا، لا حاضرا، ولا ممتنعا، ليس يغضب أَحد على الضعيف الذي وقع الشر به، ولا على العظيم القدر الذي يُؤْيَس من وقوع الشر به وهو الذي ليس لرتبته نسبة إِلى رتبة الغاضب عليه، مثل السُّوَق والملوك. وكذلك لا يغضب على الصغير القدر جدا الذي ليس له إِليه نسبة. وكثير من الشهوات تلزمها اللذة وهي حاضرة بالفعل، أَي محسوسة، بل وتلزمها اللذة وهي متخيلة، ولذلك كان الذاكرون للشيءِ، المشتهى كيف ما يذكرونه، قد يجدون له لذة ما. وكذلك الآملون أَن يظفروا بشيء قد يجدون بعض لذة ذلك الظفر. ولهذا كان المحمومون الذين يمنعهم الأَطباءُ من شرب الماء يلتذون بتذكر شربه، وبالرجاءِ أَن يبرأوا فيشربونه. والذين يَسئلون من الناس ما هو خير لهم أَو يكتبون فيه أَو يسعون فيه فقد يلتذون بالطلب والسعي لأَنهم يرجون أَن ينالوا تلك التي سأَلوا حتى تكون موجودة لهم فيلتذوا بإِحساسها بالفعل. والأَشياءُ التي يحبها الكل محبة صادقة هي ثلاثة أَشياء: أَحدها أَن يكون الشيءُ اللذيذ حاضرا، والثاني أَن يتخيلوه إِذا لم يكن حاضرا وذلك إِما بتذكره وإِما بتأميله، والثالث سرعة السلو عن الغموم والأَحزان. ولذلك يكرهون أَن يشاهدوا المغتمين ولا يحضرون المآتم والمناحات لأَنها تزيد في الأَحزان. وبعض الشهوات يوجد فيها غم ولذة معا،. مثل تذكر المحبوب الغائب أَو المائت إِذا فكر وذكر أَيّ امرئ كان وأَيّ أَفعال كانت أَفعاله. ولذلك الذين يعملون المراثي تصيبهم لذة وغم معا.
قال: وقد أَجاد أُوميروش في هذا المعنى إِذ قال: إِنه لما تكلم الناعي بالمرثية صرخ السامعون لها صرخة فاجعة لذيذة.
والأَخذ بالثأر يشبه أَن يكون يُعَد من هذا الباب، فإِن الأَخذ بالثأر يلذ ويحزن معا، ويشبه أَن يعد من الأَشياءِ اللذيذة فقط. ومن الملذات أَلا ينجح العدو. والذي يغضب إِذا لم يبلغ ما يؤمل من العقوبة يلتذ ويغتم معا. أَما اغتمامه فمن قبل أَنه لم يبلغ ما يريده من العقوبة، وأَما التذاذه فمن جهة تأميله البلوغ.