قال: والمتكلمون يكونون مصدقين في أَقاويلهم أَكثر ذلك لعلل ثلاث؛ لأَنه قد يُصدق المرءُ بهذه الثلاث دون قول مثبت. وهذه الثلاث هي: المعرفة والفضيلة والإِلف، أَعني أَن لا يكون مستوحشا من الذي يشير عليه إِما لمكان جهله به أَو مباينته له في الجنس أَو المكان أَو اللسان. والمشيرون يصيرون غير مصدقين ومكذبين إِما من أَجل عدم هذه الأَحوال الثلاثة فيهم أَو عدم بعضها، لأَنهم إِما أَن يكونوا لا يشيرون برأْي صواب لمكان جهلهم وخطائهم، أَعني أَنهم يشيرون بما لا ينتفع به لضعف رأْيهم. وإِما أَن يكونوا عارفين، لكنهم يمنعهم من الإِشارة بالصواب الخبث والشرارة. وإِما أَن يكونوا عارفين ذوي فضائل، لكن يكونون مستوحشين من الذين يشيرون عليهم. وذلك أَنهم إِذا كانوا بهذه الصفة، أَمكنهم أَن يعرفوا الأَمر الأَفضل فلا يشيرون به. وهو بين أَنه ليس سوى هذه الخلال الثلاث خلة إِذا وجدت للمتكلم أَمكن أَن يكون بها مصدقا عند السامعين. فأَما من أَين يعرف المرءُ أَن المتكلم بهذه الحال أَو يثبت أَنه على هذه الحال عند من لا يعرف ذلك فمن الأَشياءِ التي ذكرت في باب المديح، أَعني أَنه ذو معرفة وفضيلة.
وأَما أَنه متأَنس وصديق فإِن القول فيها هو جزءٌ من القول في المقدمات التي يثبت بها الانفعالات التي تختلف أَحكام الحكام بسببها وهي التي تلزمها إِما اللذة وإِما الأَذى، مثل الغضب والرحمة والخوف وأَضداد هذه وما أَشبه ذلك.
قال: وقد ينبغي أَن نقول فيها هاهنا وذلك يكون بان ننظر من كل واحد من هذه الانفعالات في ثلاثة أَشياء، أَعني في الأَشياءِ الفاعلة لذلك الانفعال، وفي الناس المستعدين لذلك الانفعال، وعلى من يقع ذلك الانفعال غالبا. ومثال ذلك: إِذا نظرنا في الغضب، أَن نقول: بأَية حالة يكون المرءُ غضوبا، وما الأَشياءُ الفاعلة للغضب، ومَنْ القوم الذي يغضب عليهم بالطبع. فإِن الغضب إِنما يوجد ولا باجتماع هذه الثلاث. وإِذا وجد بعضها ولم يوجد بعض، فليس يوجد الغضب ولا بد. وبالجملة فيفعل في هذا الجنس مثل ما فعل في الأَبواب المتقدمة، أَعني في باب الخصومات، وفي باب المشورة، حيث حددنا الأَشياءَ التي يقصد تثبيتها، ثم الأَشياء التي بها يلتئم وجودها، أَعني النافع أَو الضار أَو العدل أَو الجور. والاثنان من هذه الثلاثة هي التي تأْتلف منها المقدمات التي إِذا خوطب بها الإِنسان حركته إِلى ذلك الانفعال، أَعني الفاعلة له وبمن يقع ذلك الانفعال. وأَما الذين هم معدون لذلك الانفعال، فإِنما يوجد من أَحوالهم التي هم بها معدون أَنهم قد انفعلوا لا أَن تحركوا بذلك إِلى ذلك الانفعال. ومثال ذلك أَن المرءَ إِنما يحركه إِلى الغضب إِذا وصفت له حضور الأَشياء الفاعلة للغضب والمرء الذي يجب أَن يغضب عليه. فأَما الأَحوال التي بها يكون المرء معدا لأَن يغضب، فإِنما يثبت بها أَنه قد غضب. لكن معرفة هذه الأَحوال نافعة لمن يريد أَن يُغضِب، لأَنه يعرف الوقت الذي يكون فيه المرءُ مستعدا لقبول القول الذي يحركه لذلك الانفعال.
قال: والغضب هو حزن أَو أَثر نفساني يكون عنه شوق من النفس إِلى عقوبة ترى واجبة بالمغضوب عليه من أَجل احتقار منه بالمرءِ الغاضب أَو بمن هو بسببه ومتصل به.
والاحتقار هو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس لأَن نفس المحتقر به كأَنها تصغر بالأَشياءِ الصغيرة التي يتوهم فيها.
وإِذا كان هذا هو حد الغضب، فالغضب إِنما يكون من إِنسان مشار إِليه أَو ناس مشارين إِليهم على إِنسان مشار إِليه أَو ناس مشارين إِليهم لا على الإِنسان الكلي وذلك لشيء فعله المغضوب عليه بالغاضب أَو بأَحد ممن هو بسببه.
وكل غضب فيلزمه أَبدا شيء من اللذة من قبل أَن الغاضب يؤمل أَن ينتقم من المغضوب عليه. وإِذا أَمل التذ، لأَن هذا الأَمل هو الظن بأَنه سيظفر من المغضوب عليه بما هو كالممتنع على غير، وهو العقوبة التي تتوق نفسه إِليها. ولذلك قد يشرف الغاضب في نفسه بما يتخيل فيها من القدرة على العقوبة، ولذلك ليس يغضب على من هو فوق رتبته جدا ولا على من هو دونه جدا.