قال: وما أَحسن ما قال الشعراء في الغضب: إِن الذي يعتلج منه في النفس شيء أَحلى من العسل والشهد، وإِن الذي يغشى الفكر منه هو شيء شبيه بالدخان. ولذلك لا يعقل الغضبان ولا يفهم. وإِنما قيل فيه: إِنه أَحلى من العسل، لمكان اللذة التي تكون فيه عن تخيل الانتقام لأَن تخيل الشيء المتشوق وتردده في النفس لذيذ، إِذا لم يكن هنالك فكر يفهم معه شيء مكروه مقترن بالمتشوق، ولا شيء يعوق، ولكن يقوى حصول إِمكانه، كالحال في الخيالات التي يلتذ بها في النوم.
قال: والاحتقار بالشيءِ والتهاون به يكون من قبل أَن الشيءَ لا قدر له ولا يستحق أَنيعتنى به، أَعني أَن يقتنى إِن كان خيرا أَو يحتال في دفعه إِن كان شرا. ولذلك كانت الخيارات والشرور جميعا يظن بها أَنها مستوجبات للعناية بها. وكذلك الأُمور اللازمة للخير والشر مثل الخوف للشر والتأْميل للخير هي أَيضا معتنى بها. وإِنما يرى الناس أَنه لا يستحق شيئا من العناية ما ظن به أَنه ليس فيه خير يرتجى ولا شر يتقى؛ وإِن كان، فنزر قليل جدا.
وأَنواع الاحتقار، وهو الذي يسميه أَرسطو صغر النفس، ثلاثة: الإِهانة، والسخرية والطَّنْز، والشتيمة.
فإِن الذي يهان، وهو الذي يفعل به ضد أَفعال الكرامة، محتقر. وإِنما يتهاون المرءُ بالذي يرى أَنه ليس أَهلا لشيء. وكذلك الذي يطنز به هو محتقر أَيضا، إِذا كان الطنز بالشيءِ يعوق عن تشوقه وإِرادته.
والطنز الذي بهذه الصفة هو الطنز الذي ليس يقصد به فاعله شيئا يستفيده سوى مضرة المطنوز به. وذلك أَنه لما كان المطنوز به محتقرا، فهو بيّن أَنه لا يَخاف منه ضرراً. ولو ظن ذلك، لخاف فلم يحتقره. وأَما الذين يطنزون لينالوا بالطنز منفعة مَا، فأُولئك إِنما ينبغي أَن يُسَموا مستعطفين ومحتالين، مثل أَهل الدعابة الذين يتخذهم الملوك، وليس يدخلون في ذلك الجنس، وإِنما يدخلون في جنس المحتالين.
وكذلك الشتيمة هي احتقار للمشتوم والشتيمة التي بهذه الصفة هي التزييف والبهرجة التي يقصد بها أَذى المشتوم بالشيءِ الذي إِذا صرح به خزي به المشتوم. وليس تكون الشتيمة التي بهذه الصفة إِلا إِذا كان الذي شتم به قد وجد للمشتوم فيما سلف لا فيما يستقبل، وأَن يكون شتما قبيحا يخزى منه المشتوم، وأَن يكون ليس يقصد به أَن يحصل منه للمشتوم منفعة ما، مثل الشتم الذي يقصد به الأَدب، فإِن هذا ليس هو احتقاراً، وإِنما هو معاقبة. وإِنما كان الشتم ملذاً، لأَن الشاتمين يظنون بأَنفسهم أَنهم أَفضل من المشتومين. ولذلك ما يوجد الأَغنياءُ والأَحداث شتامين وفحاشين، لأَنهم يظنون بأَنفسهم الفضيلة على غيرهم. وهذا من فعل الشاتمين بيّن. فإِن الشتيمة احتقار. وإِنما يحتقر من ليس أَهلا لشيء، وهو الذي ليس له شيء من الكرامة، لا من أَجل خير يرجى منه، ولا من أَجل شر يتوقى منه.
قال: والذين يظنون أَن لهم حقا واجبا على كثير من الناس في الحسب والقوة والفضيلة، وبالجملة: في كل ما يفضل به إِنسان إِنسانا، مثل فضل الغنى على الفقير، والبليغ على العي، وذي الرياسة على المرؤوس، أَو الذي يرى نفسه مستعدا للرياسة وإِن لم يكن رئيسا، جميع هؤلاءِ معدون لأَن يغضبوا على الناس من أَدنى شيء يتخيلونه فيهم من الاحتقار. ولذلك قيل إِن شدة الاستشاطة والغضب توجد في أَبناءِ الملوك ومَن يتصل بهم الذين نشأُوا في الترفه ولم يلقوا قط إِلا بما يسرهم من إِكرام الناس لهم والمعاملة الجميلة. ويوجد في هذا الصنف مع شدة الاستشاطة أَشياءَ تلزم شدة الاستشاطة مثل فرط الانتقام وأَلا يقنعوا من الجاني عليهم بالشيءِ اليسير إِلا بالعقوبة العظيمة. وذلك أَنهم يمتعضون لعِظَم شأْنهم في أَنفسهم.
ومن الأَحوال التي إِذا كانت في الإِنسان صار بها معدا لأَن يغضب عليه أَن يكون ذلك الإِنسان ممن يتوقع منه الإِحسان بعادة فلا يفعل ذلك إِما بالإِنسان الذي عوده ذلك أَو بمن يتصل به. وذلك إِذا علم ذلك الإِنسان إِن تركه ذلك كان بهوى منه، أَو علم أَنه يهوى أَن يترك ذلك وإِن لم يترك. وقد يعد ترك الإِحسان المعتاد في فاعلات الغضب. وإِذا كان هذا هكذا، ففاعل الغضب بالجملة إِنما هو الاحتقار أَو ما يظن أَنه احتقار.