والناس المستعدون للغضب هم الذين توجد فيهم أَحوال تخيل فيهم في أَكثر ما يرد عليهم أَنه احتقار. والمستعدون لأَن يُغضب عليهم هم الذين يخيل فيهم إِلى الغير أَن أَكثر الأَفعال التي تَصدر منهم هي احتقار.
وإِذ قد تبين بالجملة من أَجل أَي شيءٍ يكون الغضب ومَن الذين هم غضوبون ومَن الذين يغضب عليهم، فقد يجب أَن نعدد هاهنا هذه الأَحوال. فمن الأَحوال التي بها يكون المرءُ غضوبا أَن يكون الإِنسان يتشوق إِلى شيء ويكون تشوقه إِليه مع غم وأَذى فإِن هؤلاءِ يسرع إِليهم الغضب، فُعِل بأَحدهم شيء مُوجب للغضب أَو لم يفعل، لأَنه لضيق صدره يظن أَنه فعل به ذلك. ومن هؤلاءِ الذين لهم أَشياء تؤذيهم، فهم يشتاقون إِلى زوال ذلك المؤذي. فإِن هؤلاءِ يغضبون على كل شيء ومن كل شيء، مثال الذين يمسهم فقر أَو مرض. فإِن هؤلاءِ يشتهون الصحة والأَشياء المستعملة في الصحة والثروة والأَشياء المدركة بالثروة. ولذلك ليس يقال لما يتردد في نفوس هؤلاءِ من هذه الشهوة أضنه سبب لأَن يقال فيهم إِنهم شهوانيون، بل ذلك سبب لأَن يقال فيهم إِنهم ضجرون. وأَكثر ما يغضب هؤلاءِ على الذين يحتقرون الأَمر الواقع بهم، مثل الذين يتهاونون بالوجع الذي يصيب العليل في حال إِصابته إِياه. وكذلك الذين يتهاونون بالحاجة الماسة التي أَصابت إِنسانا ما في حال فقره. ومثل من يتهاون بالجور الواقع على إِنسان ما. ومن هذا الجنس من يتهاون بصديق المرءِ. وبالجملة فكل من يتهاون بما يؤذي الإِنسان ويحزنه أَو بما يلذه ويسره. والإِنسان الذي أَخفق أَمله يسرع إِليه الغضب، لأَنه قد ظن ظنا ما فأَخفق ظنه.
قال: وقد تبين من هذه الأَشياءِ في أَي أَحوال من أَحوال الإِنسان وعوارض من عوارض نفسه، وفي أَي سن، وخلق يكون أَشد استعداداً للغضب، وعلى من يغضبون، وبمن يهزأون ومن يعيرون إِذا كانوا في شيء شيء من هذه الأُمور.
أَما في الأَحوال فمثل غضب أُولي الرياسة على من لا رياسة له.
وأَما في العوارض فمثل غضب المغتمين على المسرورين.
وأَما في الخلق فمثل غضب الشجعان على الجبناءِ.
وأَما في السن فمثل غضب المشايخ على الشباب.
قال: وإِنما يشتم ويستهان بالذين تكون حالهم في أَفعالهم وأَقوالهم وحالاتهم حال من لا ينتفع بشيء من تلك الأَفعال والأَقوال والأَحوال، أَو يظن بهم ذلك. فإِنه إِذا اعتبر أَمر الشتيمة والاحتقار وجدت لا تتعدى هذا الصنف. ولذلك قد يظن أَن ما يقع من الاستهانة والاستخفاف بالفضلاءِ والحكماءِ أَنه أَمر واجب. لأَن الجمهور يرون أَنهم لا ينتفعون من أَحوالهم بشيء، وكذلك سائر الفضائل التي هي غير نافعة، وخاصة ما كان منها إِنما يحصل بعد تعب عظيم ويحفظ بعد حصوله بتعب عظيم أَيضا. وذلك أَن الجمهور لما كانوا يعتقدون في أَمثال هؤلاءِ أَنه ليس لهم منفعة في ما يقتنون من ذلك ولا شيء فيه قوة منفعة كان أَحرى أَن يظنوا أَنه ليس ينتفعون منهم بتلك الأَشياء. لأَنهم إِذا لم ينفعوا أَنفسهم، فأَحرى أَلا ينفعوا غيرهم. وإِذا رأَى الجمهور في كثير من هذه الأَشياءِ أَن لهم فيها منفعة، وإِن كان لا ينتفع بها أَهلها، أَعني الذي يقتنونها، ربما استعطفوهم واسترحموهم بعد التغيير، وذلك في وقت حاجتهم إِليه، واعتذروا إِليهم مما سلف. وهذا من فعلهم إِنما ينتفعون به معهم إِذا كان التغيير المتقدم لهم غير مفرط ولا خارج عن العادة. لأَنه إِذا كان مفرطا ظن بهم أَنهم يستهزئون بهم في حال الاستعطاف والتودد.
قال: والذين يحسنون، ثم يقطعون إِحسانهم؛ والذين لا يكافئون المرءَ على فعله بما يجب لذلك الفعل، أَو يفعلون معه ضد فعله؛ والذين يرون المحسنين إِليهم بحال خسيسة، وذلك بأَن يرى الذي أَحسن إِليه أَن ذلك الإِحسان خسيس أَو أَن قدره فوق ذلك؛ فإِن هؤلاءِ يغضب عليهم. وهذه الأَفعال كلها هي من فاعلات الغضب، لأَنه يظن بهم أَنهم متهاونون.
قال: وهاهنا قوم يغضبون من التهاون الواقع بأُمور خسيسة لهم أَو بالتي هي أَخس من الخسيسة وهي التي ليس يرى لها أَحد قدراً في شيء ولا يمكن فيها كلام تعظم به أَصلا ولا يطالب أَحد بتعظيمها. وليس يجب أَن يكون الأَمر كذلك، أَعني أَن يغضب المرءُ على من يحتقر منه الأُمور اليسيرة، بل إِنما يجب أَن يقع الغضب على من احتقر من المرءِ أُموراً لها قدرٌ.