للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأَمَّا المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر كان أَو لم يكن فيكاد أَن تكون واحدة بالموضوع، اثنتين بالجهة. فمنها: أَنه إِن كان الذي هو أَقل تهيأ واستعدادا لأَن يكون قد كان، فالذي هو أَكثر تهيأ قد كان. وموضع ثان: وهو إِن كان المقابل الذي قد جرت العادة أَن يتقدمه مقابله قد كان، فإِن الآخر قد كان؛ مثال ذلك إِن كان الإِنسان نسي شيئا فقد كان علمه، وإِن كان حنث، فقد كان حلف. وموضع ثالث: وهو إِن قدر وهوى أَن يفعل، ولم يكن شيء من خارج يعوقه، فقد فعل. وقريب من هذا إِن كان قدر على شيء وغضب، فقد كان. والموضع العام لهذين أَنه إِن كان قادرا على الشيءِ، وهو متشوق له، فقد فعله. وإِنما كان عاما لأَن التشوق يعم الغضب والهوى. وإِنما صار هذا الموضع مقنعا لأَن الناس أَكثر ذلك يفعلون ما يشتهون إِذا قدروا، أَما الأَحداث فللنهامة، وأَما الخيار فلشهوتهم للخير. وإِذا كانت أُمور قريبة الكون متوقعة، فهي كالموجودة وموضع رابع: وهو إِذا كان إِنسان عادته أَن يوجد منه فعل ما كثيراً، فإِن ذلك الفعل قد كان منه. وموضع خامس: وهو أَن ننظر إِذا أَردنا أَن نقنع في شيء ما أَنه قد كان هل تقدمته أَشياء في طباعها أَن تكون قبل ذلك الشيء الذي أَردنا معرفة كونه، فإِن كانت تلك الأَشياءُ قد تقدمت، حَدَسْنَا أَن ذلك الأَمر قد كان. وهذه الأَشياءُ السابقة للشيءِ ربما كانت أَسبابا، وربما كانت علامات؛ مثل أَنه إِن كانت السماءُ برقت، فقد رعدت. وإِن كان الإِنسان قد جرب شيئا ما لينظر هل يتأَتى له فيه ذلك الفعل أَم لا، فقد كان منه ذلك الفعْل. وموضع سادس عكس هذا وهو إِذا وجدت الأَشياءُ المتأَخرة عن الشيءِ، فقد وجد الشيء؛ مثال ذلك إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت؛ وإِن كان فَعَلَ الآن، فقد ابتدأَ فيما قبل يَفْعَل.

وهذه الأَشياءُ التي تتأَخر عنها أَشياء وتتقدم عليها أَشياء، منها ما هو باضطرار، ومنها ما هو على الأَكثر. فمثل الاضطراري: إِن كان نسي، فقد علم؛ ومثال الأَكثري: إِن كانت السماءُ رعدت، فقد برقت.

فهذه هي المواضع التي يوقف منها على أَن الأَمر قد كان.

وأَما معرفة أَن الأَمر لم يكن فمن أَضداد هذه بعينها.

وأَما المقدمات التي يوقف منها على أَن الأَمر سيكون وأَنه متوقع كونه، فهذه هي بأَعيانها. فأَول ذلك إَن كان الأَمر مقدورا عليه ومشتهى، فسيكون. وأَعني بالمشتهى هاهنا إِما اللذات المحسوسات، وإِما الأَشياء التي يهواها الإِنسان من غير أَن تكون أُموراً محسوسة، كالمال والكرامة. وكذلك إِن كان الأَمر مقدوراً عليه مع الغضب أَوْ كان مقدوراً عليه ومختاراً بفكر وروية، فهو ممكن. وكذلك الأَشياءُ اللازمة للأَفعال الإِرادية ما كان يلزم منها باضطرار، وما كان لا يلزم باضطرار، فهي كلها معدودة فيما سيكون، إِذا كانت الأَشياءُ المتقدمة لها. فمثال ما يلزم أَكثريا للفعل الإِرادي خروج السهم التابع للرمي، ووقوع البصر على الشيءِ التابع لفتح الأَجفان. وأَيضا إِن تقدمت أَشياء هي متهيئة أَن يكون عنها شيء، فذلك الشيء سيكون؛ مثل أَنه إِن كانت السماءُ غامت فستمطر. وموضع آخر: إِن كان الشيءُ الذي هو من أَجل غاية ما موجودا، فإِن الغاية ستوجد؛ ومثال ذلك إِن كان الأَساس قد كان، فإِن البيت سيكون.

فأَما المواضع التي يوقف منها على الأَعظم والأَصغر والكثير والقليل والأَفضل والأَخس فهي بأَعيانها التي عددت في باب الأَنفع والآثر في المشوريات، إِذا جُعلت أَعم قليلا، وذلك بأَن يترقى من باب النافع إِلى باب الخير. فإِن الخير جنس مشترك للغايات الثلاث من الأَجناس الثلاثة من أَجناس الأَقاويل الخطبية، وذلك أَنه في المشورية النافع، وفي المنافرية الحسن، وفي المشاجرية العدل. وبالجملة فمواضع المقايسة تستعمل خاصة وعامة حتى يمكن أَن تؤخذ مشتركة لجميع المطالب على ما تبن فيه الأَمر في الثانية من الجدل. إِلا أَن هاهنا إِنما ينتفع بالكليات إِذا طوبق بها الجزئيات، واستعملت قوة الكُلي فيها، وذلك بأَن يحد كل واحد منهما ويوصف بما يخصه. فإِن غاية هذه الصناعة إِنما هو التكلم في الجزئيات لا في الكليات، وفيها تقع مخاطبة الجمهور بعضهم بعضا. وذلك أَنه قد يحتاج في مطابقة الكليات في المواد إِلى ملكةٍ ودربة، وذلك أَحد ما يتفاضل فيه الخطباءُ.

<<  <   >  >>