ومثال الأَقاويل المخترعة قول بعض القدماء لقومه حين أَرادوا أَن يقيموا من أَنفسهم وأَهل مدينتهم حرساً وجندا لرجل معروف بالتغلب والاستيلاء والقهر ليقهر لهم عدوهم، فإِنه أَشار عليهم من شر أَعدائهم، وهو أَن يغلب عليهم ذلك الرجل ويستعبدهم. وضرب لهم مثالا بفرس كان قد استولى على مرعى وتفرد به، فدخل أُيَّل، فأَفسد المرعى. فلما أَراد الفرس الانتقام من الأُيَّل، سأَل الإِنسان هل يقدر أَن يعينه على الانتقام منه، فقال له: نعم إِن أَنت قبلت اللجام وحملتني على ظهرك وفي يدي قضيب. فلما أَذعن الفرس لذلك وركبه الرجل صار - وكان ما أَمله من الانتقام من من الأُيَّل - إِلى أَن ملكه الرجل وذلَله وسخره. قال فهكذا فانظروا فإِنكم إِن قبلتم اللجام، حيث تجعلون ذلكم المتغلب أَميرا مستبدا عليكم وأَقمتم له الحرس والأَعوان، عرض لكم معه ما عرض للفرس مع الإِنسان. وكتاب دمنة وكليلة إِنما هو من هذا النوع. وأَرسطو يسمى هذا النوع من الأَخبار المخترعة كلاما، لأَن المقدمة الواحدة فيه فرقت فجعلت أَشياء كثيرة، ويقول إِن الكلام إِنما يستعمل لتفهيم الشيء وتلخيصه باستقصاء وذلك يكون بأَخذ جزئيات الشيء ولوازمه أَكثر مما يكون بأَخذ الشيء جملة ودون تفصيل. ومنفعة الكلام المخترع أَنه أَسهل من المثال الموجود، لأَن وجود أُمور قد كانت شبيهة بالأَمر الذي فيه القول يعسر في كثير من المواضع، وأَما الكلام المخترع فيسهل. وذلك إِنما يكون متى كان المرءُ له قدرة على أَخذ الشبيه والمشاكل ولوازم الأَشياء والأُمور الكائنة عنها. وهذه القوة هي طريق إِلى الفلسفة، وذلك لأَن بأَخذ الشبيه يوقف على الكلي. ومنفعة المثال الموجود أَنه أَقنع عند المشوريات، وذلك أَن المتوقعات أَكثر ذلك، كما يقول أَرسطو، يشبهن الماضيات. فالأَمثال أَنفع في أَنها أَسهل وفي أَن يكون الإِنسان يمكنه أَن يجعلها شديدة الشبه بالأُمور التي فيها الكلام. والأُمور الماضية التي يحتج بها ربما لم تكن شديدة الشبه إِلا أَنها، كما قلنا، أَشد إِقناعا.
فقد قيل كم أَنواع المثالات وكيف ينبغي أَن تستعمل.
وأَما الرأي فإِنه إِذا عرف ما هو، عرف في أَي الأَشياء ينبغي أَن يستعمل ومتى يستعمل وفيماذا ينبغي أَن يستعمل وما منفعته.
فنقول: إِن الرأي هو قضية موضوعها أُمور كلية، لا جزئية، وذلك في الأُمور المؤثرة والمجتنبة، لا في الأُمور النظرية؛ إِذا كانت تلك القضية نتيجة ضمير، ومبدأ لضمير آخر، من غير أَن يصرح بالقياس المنتج لها، ولا بالمقدمة الثانية التي تستعمل معها جزء ضمير، ولا بالنتيجة اللازمة عنها. فإِنه إِذا صرح بمقدمتي القياس المنتج لها، كان القول ضميرا. وكذلك إِذا صرح بالرأي من حيث هو مبدأ لضمير، وصرح بالنتيجة اللازمة عن ذلك كان القول أَيضا ضميراً. وذلك أَن القضية الكلية لا تخلو أَن تكون إِما مبدأ ضمير أَو نتيجة ضمير أَو ما جمع الأمرين جميعا. وذلك هو الرأي إِذا لم يصرح بالمقدمات المنتجة له ولا بالمقدمة التي تستعمل معه جزء ضمير ولا بالنتيجة اللازمة عنه من حيث هو مبدأ.
فمثال القضية التي إِذا استعملت نتيجة قياس محذوف كانت رأيا، وإِذا استعملت مع قياسها كانت ضميرا، قوْل القائل: إِنه ليس الرأي عندي قول من قال - وإِن كان معلما وذا صيت - إِن كون الغلمان حكماء فضل أَوْ بطالة، فإِنه إِن أَضاف إِلى هذا القياس المنتج له أَو المبطل لمقابله كان ضميراً، وذلك مثل أَن يقول القائل: إِن قول من قال إِن كون الغلمان حكماء فضل أَو بطالة، من أَجل أَنه يكون لحسادهم وحساد آبائهم في بطالتهم موضع قول، ليس بصحيح. وذلك أَنه يكون للحساد قول من غير البطالة، فليس يلزم من أَن يكون تعلمهم الحكمة بطالة أَلا يتعلمونها. وإِن لم يات بهذا القول وإِنما أَتى بالنتيجة وحدها كان رأيا.
ومثال القضية التي إِذا استعملت مبدأ ضمير وحذفت المقدمة الثانية والنتيجة كانت رأيا، وإِن صرح بالنتيجة كانت ضميراً، قول القائل، إِذا شكى ولده فقال: إِني لست أَرى في أَولاد هذا الزمان خيرا، فإِن هذا رأَى أَخبر به أَنه يراه، وإِنما أَراد أَن ولده من أَولد هذا الزمان، وليس في أَولاد هذا الزمان خير، فولده ليس فيه خير. فإِذا حذفت هذه المقدمة والنتيجة، كان رأيا. وإِذا صرحت بالنتيجة، كان ضميرا.