وصنعة الكلام الرأيى وهو الذي جرت العادة أَن يدل عليه بالأَلفاظ التي تدل على الوقوف على رأي الرائي مثل قول القائل: الذي عندي، أَو الذي أَراه، أَو الذي أَحسب، إِنما يليق من الأَسنان بالشيوخ وذلك فيما جربوا وخبروا من الأُمور. فأَما من لم تكن هذه حاله فليس يحسن ذلك منه. وكذلك صنعة الأَمثال إِنما تليق بالشيوخ المجربين. فإِن تكلف المرء القول، كما يقول أَرسطو، فيما لم يجرب جهل وسوءُ أَدب. وينبغي أَن تكون العلامة المستعملة في الآراءِ كلية، مثل قول القائل: إِن القرويين مختلطة أَوهامهم لأَنهم يبذلون ما عندهم سريعا، والمختلطة أَوهامهم يبذلون ما عندهم سريعا. فإِن هذه العلامة في الشكل الثالث، ومقدماتها كلية. فإِن لم يستطع المشير أَن يأتي بالرأي كليا، فينبغي أَن يأتي به أَكثريا. فإِن لم يمكنه أَتى به على أَنه لأَكثر من واحد، وأَخذه مهملا، وأَوهم فيه الكلية، وإِن كان ذلك باستكراه. وهذا قد يستعمل في العلامات التي في الشكل الثالث. فإِن هناك إِنما تلزم نتيجة جزئية فتوهم أَنها كلية. وينبغي أَن يستعمل عند الإِشارة بالآراءِ الأَمثال المشهورة، مثل قول القائل: وَلِيَ حارها من تولى قارها، وقد تبين الصبح لذي عينين. فإِن هذه الأَمثال هي في أَنفسها آراء، وهي مع هذا شهادات. وينبغي أَن تستعمل الأَشياءُ المنافرة للكل والملائمة على جهة الرأي، أَعني الأَقاويل التي تلذ النفس أَو التي تؤلمها وتؤذيها، وهي المعظمة أَو المخسسة كما يقال: اعرف قدرك، مرة على جهة التوبيخ، ومرة على جهة التعظيم. وكما يقول القائل: ليس يسوءُ منك شيء وقد عرفت خلقك، فإِن هذا يحتمل المدح والذم. فإِن أَمثال هذه الأَقاويل إِذا استعملت على جهة الرأي كانت أَوقع، كما لو قال القائل لمن أَغضب بأَن نقل عنه شيء ما: إِن هذا كذب على قدر علمي. فإِن مثل هذا القول يزيل غضبه. وهو أَنجح إِذا استعمل على هذه الجهة، أَعني على جهة الرأي.
والكلام الخلقي إِذا استعمل على جهة الرأي كان أَنجع. والذي يلائم من الخلقيات هو الكلام الذي يليق في الفضائل، كما يقال إِنه ليس ينبغي أَن يحب بقدر ما يبغض، يعني أَن الحب ينبغي أَن يكون أَكثر، بل بالحري أَن يبغض بقدر ما يحب. وينبغي أَن يكون ما يخاطب به من الأَقاويل الخلقية بحسب همة السامع، وبحسب ما يستحسن من الخلق، ويكون كامنا فيه بالقوة. فإِن بهذا يكون القول أَنجع، لأَنه يصير ما بالقوة في نفسه سريعا إِلى الفعل. مثل أَن يرى شيخا يفعل فعل صبي فيقول له: هذا غير لائق بالمشايخ، بل اللائق بهم كذا وكذا. فإِنه إِذا ورد هذا القول على من في نفسه همة ذك الخلق تحرك إِليه. فإِن لم يمكن أَن يكون من يخاطبه بالكلام الخلقي ممن فيه همة ذلك الخلق، فينبغي أَن يردف القول الخلقي بالضمير المقنع، مثال ذلك قول القائل: إِنه ليس ينبغي عندي للإِنسان أَن تكون محبته يسيرة بقدر بغضته، كما يقول قوم، بل يجب أَن يكون دائم المحبة، فإِن ذلك المذهب إِنما هو للغدار أَو المكار. فإِن هذا المثال قد جمع تحسين الخلق الذي وصفه وتقبيح ضده مع ذكر الضمير المقنع في ذلك. أَو مثل أَن يقول هكذا ليس هذا القول عندي بحسن، أَعني أَن يحب الإِنسان يسيرا بقدر ما يبغض، لأَنه يحق على المحب أَن تكون محبته دائمة شديدة، لأَنه ينبغي أَن يبغض الشر بغضا شديدا. فإِنه إِذا استعمل هذا على هذه الجهة جمع ثلاثة أَشياء: أَن يكون رأيا وضميرا وخلقيا. أَما كونه رأيا فلما استعمل فيه من اللفظ، الدال على الرأي، أَعني قوله عندي، وأَما كونه خلقيا فلأَنه يحرك إِلى خلق المحبة، وأَما مقدمة الضمير المستعملة فيه فإِنها مأخوذة من موضع الضد، لأَنه إِن كان ينبغي أَن يبغض الشرار بغضا شديدا، فقد ينبغي أَن يحب الخيار حبا شديدا. وأَنجح ما يكون الكلام الخلقي إِذا جمع هذه الثلاثة. واستعمال الكلام على جهة الرأي فيه منافع: أَحدها أَن الجمهور معارفهم وظنونهم إِنما هي في الأُمور الجزئية، وذلك أَنه ليس يمكنهم أَن يحددوا في أَذهانهم الأُمور الكلية، بل إِنما يتخيلونها مع الجزئيات، فإِذا خوطبوا بالكلي في تلك الجزئيات التي أَدركوها فرحوا بما استفادوا في تلك الأُمور الجزئية من الكلية. والناس محبون بالطبع للفوائد. فهذا أَحد ما يحر ك به الكلام الرأيي.