والصنف الثالث من المقدمات التي يستعملها غير ذوي الحنكة هي أَيضا المقدمات التي تحتاج إِلى بيان يسير. فذوو الحنكة يسكتون عن أَمثال هذه المقدمات ولا يبادرون إِلى التكلم كما يصنع الأَحداث. وبالجملة فليس ينبغي أَن تكون المقدمات في هذه الصناعة من كل ما يعلمه الجمهور ويرونه، بل من أُمور معلومة محصلة إِما عند الحكام وإِما عند المقبولين من الناس عند الجمهور وإِما عند المقبولين عند الحكام وهم الذين ارتضوهم وذلك بأَن تكون المقدمات بينة لكل هؤلاءِ المقبولين أَو لأَكثرهم وكذلك لكل الحكام أَو لأَكثرهم. وينبغي أَن تؤخذ مقدمات الضمائر ليس كلها من الأُمور الاضطرارية، لكن من الممكنة على الأَكثر؛ فإِنه قد يستعمل في الخطابة مقدمات ضرورية لها معونة في أَشياء ليست ضرورية. وينبغي أَن يعرف المتكلم الأَمر الذي يريد أَن يتكلم فيه ويقيس عليه، إِما في الأُمور المشورية وإِما في غيرها من الأَبواب الضرورية للناس، يعني المنافرية أَو المشاجرية، وذلك بأَن يكون قد أَحاط علما بجنس ذلك الشيء الذي فيه يريد أَن يتكلم أَو بالشيء الذي يريد أَن يكلم فيه من ذلك الجنس. فإِنه إِن لم يكن عنده علم من ذلك الشيء، لم يقدر أَن يقنع فيه. وكيف نستطيع أَن نشير على أُناس بالمحاربة ونحن لا نعرف جندهم ما هم، أَعني أَخيلا هم أَم رَجَّالة أَم أَصحاب قسي أَم رماح أَم سيوف، ولا كم مبلغ عددهم، ولا مَنْ إِخوانهم، ولا مَنْ أَعداؤهم، ولا أَية حروب حاربوا ولا مَنْ حاربوا وكيف حاربوا، فنعلم مقدار جرأَتهم وصدقهم في الحرب. أَو كيف نستطيع أَيضا أَن نمدح قوماً لا نعلم ما لهم من المكرمات والأَوائل الشريفة، فإِن المدح إِنما يكون للممدوح بالأُمور الموجودة له مما هي حسنة في نفسها جميلة أَو يظن بها أَنها حسنة جميلة. وكذلك متى أَخبرنا عن غيرنا بأَنه كان يشير أَو يمدح أَو يذم أَو يشكو أَو يجيب، فإِنما نخبر عنه بأَنه قد فعل تلك الأَشياء بأَعيانها التي كنا نحن نفعلها لو تولينا الفعل بأَنفسنا، أَعني بالأُمور التي هي موجودة للشيءِ الذي يوصف بها بالحسن والقبح في المدح والذم، أَو يوصف بها بالنفع والضر في الإشارة، أَو بالجور والعدل في الشكاية. وبهذا الطريق بعينه، أَعني بالأُمور الموجودة للشيءِ، نصف غير الناس بالجودة والرداءة كما نصف الناس. فإِن هاهنا أَشياء سوى الناس تذم وتمدح. وبالجملة: إِنما نصف ذوي الخير والشر بالأَفعال التي هي موجودة عندهم من جهة ما هو ذوو خير أَو شر لا بأَي شيء اتفق، ولكن من التي هي خاصة بالشيءِ الذي فيه الكلام. وكذلك كل شيء من الأَشياءِ يقنع فيه بقول قياسي، كان القول القياسي ضعيفا أَو قويا.
والقياس يفضل القياس إِذا كانت مقدماته أَعرف، ولزوم أَجزاء مقدماته بعضها لبعض أَكثر والحدود الوسطى فيه أَخص بالشيءِ الذي يقصد إِثباته. فهو بين أَن مقدمات الضمائر ليس ينبغي أَن تؤخذ من أَي شيء اتفق، ولا كيفما اتفق، بل ينبغي أَن تؤخذ بالشروط التي قيلت والحدود التي وضعت مثل أَن تكون من الأُمور الموجودة للشيءِ الذي فيه القول وأَن تكون مقبولة عند الخواص من الناس والمشهورين، وذلك في صنفي المقدمات، أَعني الممكنة والوجودية، وسائر الشروط التي قيلت. وكل ما كانت المقدمات من أُمور هي موجودة، أَي صادقة، وكانت أَخص بالشيءِ، كانت أَقنع مما هو أَكثر عموما وأَقل صدقا. والمقدمات العامة هي الموجودة لأَشياء كثيرة. مثال ذلك أَن يمدح مادح أَرسطو بأَنه كان حكيما، فإِن هذا شيء يعم أَرسطو وغيره من الحكماءِ. وأَما الذي يخصه فمثل أَن يقال فيه أَنه الذي كمل الحكمة وتممها.