وقد ينبغي أَن نقول أَيضا في المواضع التي منها نستنبط الضمائر. والمواضع بالجملة هي اسطقسات الضمائر. فإِنه إِنما يمكننا أَن نصادف مقدمات الضمائر بطريق صناعي بمعرفة المواضع، وهي أَول شيء ينبغي أَن يكون عندنا من أَحوال المقدمات. فإِن المواضع بالجملة إِنما هي صفات للمقدمات وأَحوال لها عامة يُتطَّرق منها إِلى وجود المقدمات. والذي سلف القول فيه من أَحوال المقدمات هي أَيضا صفات أَخص من المواضع. والمواضع منقسمة أَولاً بانقسام الضمائر. والضمائر أَولاً صنفان: مثبت وموبخ، كالحال في القياسات الجدلية. والضمير المثبت هو القياس الذي ينتج أَن الشيءَ موجود أَو غير موجود من المقدمات المعترف بها. والضمير الموبخ هو الذي ينتج الشيءَ من المقدمات المجحودة المستنكرات، مثل قول القائل: إِن كذا ليس بنافع، لأَنه لو كان نافعا لكان أَول من بادر إِليه المشير. وذلك أَنه قد يترك المشير شيئا تركُهُ مستنكر. فإِذا وفينا المواضع بحسب هذين النوعين من أَنواع الضمائر، وكانت عندنا عتيدة، كنا قريبين من أَن تحصل عندنا بالفعل جميع المقدمات الجزئية النافعة في شيء شيء من الأُمور الجزئية التي قلنا إِن أَحد شروطنا أَن تكون مقبولة عند طائفة طائفة. ومن هذه المواضع يؤتى بالضمائر في المشوريات التي هي في الضار والنافع، وفي المنافرية التي هي في المدح والذم، وفي المشاجرية التي هي في العدل والجور، وفي الانفعالات، وفي الخلقيات. فنقول: إِن المواضع لما كانت ثلاثة أَصناف: إِما موضع مثبت وإِما موبخ وإِما سوفسطائي، فقد ينبغي لنا أَن نذكر صنفا صنفا من هذه على حدته، ثم نصير بعد ذلك إِلى القول في المناقضات والمقاومات ومِنْ أَين ينبغي أَن يؤتى بالضمائر فيها.
فأَحد المواضع المثبتة المأخوذة من الأَضداد وذلك أَنه ينبغي أَن ننظر هل ضد المحمول موجود لضد الموضوع، فإِن وجد، حكمنا أَن المحمول موجود له. وإِن أَلفيناه مسلوبا عنه، حكمنا أَن المحمول مسلوب من الموضوع. مثال ذلك إِن كانت العفة نافعة فالشره ضار؛ وإِن كانت الحرب هي علة الشرور الحاضرة، فالسلم ينبغي أَن يصلح ذلك ويدفعه.
وموضع من التصاريف والنظائر التي ذكرت في طوبيقى؛ فإِن النظائر والتصاريف يجب أَن يكون حكمها فيما يوجب أَو يسلب واحدا، وذلك أَنه إِن كانت العفة خيرا، فالعفيف خيّر.
وموضع ثالث من المضاف: فإِنه إِن كان الفعل حسنا وعدلا، فالانفعال أَيضا حسن وعدل، مثال ذلك أَنه إِن كان البيع حسنا، فالابتياع حسن. وقد يغلط في هذا ويظن أَنه إِن كان بعدل وقع الفعل بالمنفعل فبعدل انفعل المنفعل، أَو بالعكس. والاختلال فيه أَنه إِذا حكم على إِنسانٍ ما بالموت لأَنه قتل زيدا فجعل لأَوليائه أَن يقتلوه، فيجيءُ آخر فيقتله ممن ليس له بولي، ثم يعتذر بأَن يقول: إِن كان الموت الذي حل به عدلا، فقتلي له عدل. وهو بحسب الشريعة ليس بعدل. فلذلك ينبغي أَن ننظر إِلى الشيئين الذين أَخذا من المضاف هل أَخذا من جهة واحدة أَو من جهتين، ويستعمل النافع في الإِقناع من ذلك. وذلك أَنه قد يكون مقنعا أَن المضافين يلحقهما شيءٌ واحد، وذلك إِذا أَخذا من جهة واحدة. وبالعكس يكون أَيضا مقنعا أَن المضافين يلحقهما شيءٌ مختلف إِذا أَخذا من جهتين. فينبغي للخطيب أَن يتحرى النافع من ذلك في موضع موضع.
وموضع رابع من الأَقل والأَكثر، كما يقال إِن الذي يضرب أَبويه يضرب أَقاربه. وذلك أَنه إِذا كان الأَقل وجودا موجودا، فالأَكثر وجودا موجود ضرورة. وذلك أَن ضرب الأَبوين أَقل وجودا من ضرب القرابة. وأَما في الإِبطال فعكس هذا، أَعني أَنه إِذا لم يوجد الأَكثر فالأَقل غير موجود. وذلك أَنه إِذا لم يضرب القرابة، فأَحرى ألا يضرب الآباء. فإِذا استعمل هذا الموضع في الإِثبات انتقل فيه من الأَقل إِلى الأَكثر، وإِذا استعمل في الإِبطال انتقل فيه من الأَكثر إِلى الأَقل.