للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وهي تقول: عباد الله ما الدواء لما يشتكى؟ وما العلاج ممّا لا ينسى؟ طال الحجاب، وابطأ الكتاب، فالعقل طائر واللب غائر، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد موجود، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والقلب محتبس، رحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا كمداً، لو كان في الصبر حيلة، أو إلى العزاء وسيلة، فقلت: أيتها الجارية إنسية أنتِ أم جنّية؟ وسمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكفِها وقالت: اعذر أيّها المتكلم، فما أوحش الوجد بلا مساعدة، والمقاساة لصدّ معاندة، ثم انصرفت.

فوالله - يا أمير المؤمنين - ما أكلت طيباً إلا غصصت به، ولا رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.

فقال سليمان: كاد الجهل يستفزني، والصبابة تعاودني، والحلم يعزب عني، تلك الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:

إنما الذلفاءُ ياقوتةٌ ... أُخرجت من كيس دَهقانِ

شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لفتى ابتاعها منه، والله لا مات من يموت إلا بحسرتها، ولا فارق الدنيا إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت بهتة، فاكتم - أبا زيد - المفاوضة، يا غلام: ثقل يده ببدرة.

قال: فلما مات سعيد صارت إلى سليمان، ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه وغلبت عليه دون سائر نسائه وجواريه، فخرج يوماً بالقرب من دير الرهبان فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهر، ذات حدائق وبهجة، تحفها أنواع الزهر النضر الغض، ما بين أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر ساطع، فهي مثل الثياب الحضرمية، والبرود الأنجمية، تحمل منها الريح نسيم المسك الأذفر ويتضوع عرفها برياً فتيت العنبر، وكان له مغنٍ يأنس به، ويسكن إليه ويكثر الخلوة معه، ويستمع لحديثه وغنائه، يقال له " سنان "، وكان " سنان " - هذا - أحسن الناس وجهاً، وأظرفهم ظرفاً، فأمره فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهرات، ذات حدائق وبهجة، يحفها أنواع الزهر النضر الغض بالقرب منه، وكانت " الذلفاء "، قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سليمان يومه عند سنان في أكمل سرور وأتم حبور، إلى أن أتى الليل، فانصرف سليمان إلى فسطاطه، وانصرف سنان إلى موضعه، فوجد جماعة قد أناخوا به، فسلموا عليه، فرد عليهم سلام جذلان بوصولهم، فرح بنزولهم، فأحضرهم الطعام فأكلوا، وقدم الشراب فتناولوا منه، وقال: هل من حاجة؟ قالوا: ما جئناك إلا للقِرى.

فقال: بالمنزل الرحب حللتم، وبالجانب الخصب نزلتم.

فقالوا: أما الطعام فقد أكلنا، وأما الشراب حضر، وبقي السماع، قال: أما السماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عن الغناء، إلا ما كان في مجلسه، قالوا له: فلا حاجة لنا في الطعام والشراب عندك ما لم تُسمعنا، فلما رآهم غير مغفلين عنه رفع عقيرته، وغنى بهذه الأبيات:

محجوبةٌ سمِعَتْ صَوْتي فأرّقها ... من آخر الليلِ حتى ملّها السَّهرُ

لم يحجب الصوت أحراس ولا غَلَقٌ ... فدمعها لطروق الصوت ينحدرُ

تدني على فخذيها من معصفرةٍ ... والحلي بادٍ على لبّاتها خَصَرُ

في ليلة البدر لا يدري مضاجعُها ... أوجهها عِندَه أبهى أم القمرُ؟

لو خُلِّيت لمشت نحوي على قَدَمٍ ... تكاد من رقّةٍ بالمشي تنفطرُ

فلما سمعت " الذلفاء " صوت " سنان "، خرجت إلى صحن الفسطاط لتسمع الصوت، وجعلت لا تسمع شيئاً من نفثٍ حسن مع ما وافق ذلك من وقت الليلة المقمرة، إلا رأت ذلك كلّه في نفسها ووقتها وهيئتها، فحرك ذلك ساكناً كان في قلبها، فهملت عيناها بالدموع وعلا نحيبها، فانتبه سليمان فلم يجدها في الفسطاط، فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحالة، فقال لها: ما هذا يا " ذلفاء " فقالت يا أمير المؤمنين:

ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوَّهٍ ... قبيحِ المحيا واضع الأب والجَدِّ

يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمةٍ يُدعى معاً وإلى عَبْدِ

قال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامره. يا غلام: عليّ " بسنان "، فدعت " الذلفاء " خادماً لها، وقالت: إن سبقت إلى " سنان " فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر. فسبق رسول سليمان فأحضره، فلما وقف بين يديه وسليمان يرعد غيرة، قال سليمان: من أنت؟ قال: أنا " سنان " فقال:

تثكل في الثّكلى سناناً أمُّه ... كان لها ريحانةً تشمّه

<<  <   >  >>