الباب الثاني
أخبار أديرة مجهولة
حدثنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدّثنا عبد الله بن مسلم قال: بلغني أن أبا الطَّمحان القَيني قيل له، وكان فاسقاً خارباً، ما أدنى ذُنوبك؟ قال: ليلة الدَّير.
قيل: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية فأكلت عندها طَفيْشَلاً بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ثمّ انصرفت عنها.
قال هارون بن محمد الزيات: حدّثني حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه: أنّ الغريض سمع أصوات رهبان بالليل في دير لهم فاستحسنها، فقال له بعض من معه: يا أبا يزيد؛ صغ على مثل هذا الصوت لحناً، فصاغ مثله في لحنه:
يا أم بكر حبّكِ البادي ... لا تَصرميني إنني غادي
جدَّ الرحيلُ وحثني صَحبي ... وأُريد إمتاعاً من الزادِ
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري.
- أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبيد الله بن عمّار قال حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحارث القرشي قال حدّثنا العباس بن الوليد قال حدّثنا ضَمرة قال: خرج عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام يوماً إلى بعض الديارات فنزل فيه، وهو والٍ على الرملة، فسأل صاحب الدير: هل نزل بك أحدٌ من بني أميّة؟ قال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد ومحمد بن سليمان بن عبد الملك.
قال: فأي شيء صنعا؟ قال: شربا في ذلك الموضع، ولقد رأيتهما شربا في آنيتهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: هلمّ نشرب بهذا الجرن - وأومأ إلى جرن عظيم من رخام - قال: أفعلُ، فلم يزالا يتعاطيانه بينهما ويشربان به حتى ثملا.
فقال عبد الوهاب لمولى له أسود: هاته.
قال ضمرة: وقد رأيته وكان يوصف بالشدة، فذهب يحرّكه، فلم يقدر فقال الراهب: والله لقد رأيتهما يتعاطيانه وكلُّ واحد منهما يملؤه لصاحبه فيرفعه ويشربه غير مكترث.
قال أبو حشيشة: سمع إبراهيم بن المهدي أصواتاً من غنائي من محمد بن الحارث بن بسخُنَّر وعمرو بن بانة فاستحسنها وأخذها جواريه وقال: الطنبور كله باطل، فإن كان شيء منه حقاً فهذا، واشتهى أن يسمعني، فهبته هيبة عظيمة وقلت: إن رضيني لم يزدني ذلك، وإن لم يرضني بقيت عليَّ وصمة آخر الدهر، وكان يطلبني من محمد بن الحارث بن بسخنر خاصة، ومن إسحاق بن عمرو بن بزيع، فكنتُ أفرّ منهما، حتى حضرنا بسرّ من رأى وأنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد، ونحن في مضارب، ولم نكن سكنا المنازل بعد، فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي، فأبلغه السلام وقال: يقول لك عمك: قد أعيتني الحِيل في هذا الخبيث، وأنا أحب أن أسمعه وهو يهرب مني، فأحب أن تبعث به إليّ وتكون ربرب معه تؤنسه.
فقال لي أبو أحمد: لا بد أن تمضي إلى عمي، فجهدت كل الجهد أن يعفيني فأبى، فلما رأيت أنه شيء لا بدّ منه لبست ثيابي ومضيت إليه، وهو نازل في الدير، فرحّب وقرّب، وبسطني كل البسط، ومعي ربرب، ودعا بالنبيذ وأمر خدماً له كباراً فجلسوا معي وشربوا وسقوني، وعرض عليّ بكل حيلة أن أُغني، فهبته هيبة شديدة، وحصرت، وشربت رطلاً، ودعا بثلاث جوارٍ، فخرجن وجلسن، فقال لهن قلن:
كيف احتيالي وأنتَ لا تصلُ ... عيل اصطباري وقلَّتْ الحِيلُ
إن كان جسمي هواك يُنحِله ... فإنّ قلبي عليكَ يتَّكلُ
الشعر لخالد الكاتب والغناء لأبي حشيشة رمل، وكان يسميه الرهباني، عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يردّده، فعمله عليه، فقالته إحداهن، فذهب عقلي، وسمعت شيئاً لم أسمع مثله قط. فقال: يا خليلي هذا لك؟ فقلت: نعم أصلح الله الأمير، فأخذتني رعدة وقال لهن قلن:
ربِّ مالي وللهوى ... ما لهذا الهوى وَمَا
حار طرفي الذي هوى ال ... حسن قلبي وما حَوا
الشعر لخالد، والغناء لأبي حشيشة رمل.
فغنته ما هو أعجب من الأول، فقال: يا خليلي هذا لك؟ فقلت: نعم يا سيدي، قال: هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث. ثم شرب رطلاً آخر، فقلت في نفسي: دعاك الرجل يَسمعك أو يُسمعك، وقوّيت عزمي وغنيته بشعر لخالد الكاتب هو:
لئن لجَّ قلبُك في ذِكرِه ... ولجَّ حبيبك في هَجره
لقد أورثَ العين طولَ البكا ... وعزَّ الفؤاد على صَبره
فإن أذهبَ القلبَ وجداً به ... فجسمُك لا شكَّ في إثرِه