بلى، فسقاك الغيث صوب غمامة ... عليك لها بعد الرواح بكورُ
تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو، ومثلي بالبكاء جديرُ
وعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى ... لها ذكر قومي أنة وزفيرُ
لعل زماناً جار يوماً عليهم ... له بالذي تهوى النفوس يدورُ
فيفرح محزون، وينعم بائس ... ويطلق من ضيق الوثاق أسيرُ
رويدك إن اليوم يتبعه غد ... وإن صروف الدائرات تدورُ!
قال: فلما قرأها المتوكل ارتاع لها وتطير وقال أعوذ بالله من سوء أقداره! ثم دعا بصاحب الدير، فقال له: من كتب هذه الرقعة؟ فأقسم أنه لا يدري. قال: وأنا مذ نزل أمير المؤمنين هذا الموضع، لا أملك من أمر هذا الدير شيئاً، يدخله الجند والشاكرية ويخرجون، وغاية قدرتي أني متوارٍ في قلايتي، فهم بضرب عنقه، وإخراب الدير، فكلمه صحبه إلى أن سكن غضبه، ثم بان بعد ذلك أن الذي كتب الأبيات رجل من بني روح بن زنباع الجذامي، وأمه من موالي هشام بن عبد الملك.
[دير الرها]
دير الرها: بالجزيرة بين الموصل والشام.
حدثني أبو محمد حمزة بن القاسم الشامي: قال: اجتزت بكنيسة الرها عند مسيري إلى العراق. فدخلتها لأشاهد ما كنت أسمعه عنها. فبينما أنا في تطوافي، إذ رأيت على ركن من أركانها مكتوباً بالحمرة: حضر فلان بن فلان وهو يقول: من إقبال ذي الفطنة، إذا ركبته المحنة انقطاع الحياة، وحضور الوفاة. وأشد العذاب تطاول الأعمار في ظل الإدبار. وأنا القائل:
ولي همة أدنى منازلها السها ... ونفس تعالت بالمكارم والنهى
وقد كنت ذا حال بمرو قريبة ... فبلغت الأيام بي بيعة الرها
ولو كنت معروفاً بها لم أقم بها ... ولكنني أصبحت ذا غربة بها
ومن عادة الأيام إبعاد مصطفى ... وتفريق مجموع وتنغيص مشتهى
فاستحسنت النظم والنثر وحفظتهما.
[دير زرارة]
دير زرارة: وهو بين الكوفة وحمام أعين، على يمين الحاج من بغداد، نزه، كثير الحانات والشراب، لا يخلو ممن يطلب اللهو واللعب، ويؤثر البطالة والقصف.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون بن طائع قال حدثني ابن خرداذبة قال: خرج مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا؟ فما زال ذلك دأبهم، حتى انصرف الناس من مكة.
قال: فركبا بعيريهما وحلقا رؤوسهم ودخلا مع الحجاج المنصرفين، وقال مطيع في ذلك:
ألم ترني ويحيى قد حججنا ... وكان الحج من خير التجارة
خرجنا طالبي خير وبر ... فمال بنا الطريق إلى زرارة
فعاد الناس قد غنموا وحجوا ... وأبنا موقرين من الخسارة
وقد روي هذا الخبر لبشار بن برد وغيره.
دير زكَّى
دير زكّى: هو دير بالرها بإزائه تل يقال له: تل زفر، وهو زفر ابن الحارث الكلابي، وفيه ضيعة يقال لها الصالحية، اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي - كذا قال الأصبهاني - فيها بستان موصوف بالحسن، وفيه سروتان قديمتان. وقد ذكره الشعراء، وذكروا بهجته، وتشوقوه. أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك. وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس الكاتب قال: كان الرشيد يحب ماردة - جاريته - وكان خلّفها بالرقة، فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها، فكتب إليها:
سلام على النازح المغترب ... تحية صبٍّ به مكتئب
غزال مراتعه بالبليخ ... إلى دير زكّى فقصر الخشب
أيا من أعان على نفسه ... بتخليفه طائعاً من أحب
سأستر ... والستر من شيمتي هوى من أحب بمن لا أحب
فلما ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي - صاحب علية - فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات، فقال:
أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه العجائب كل العجب
أتزعم أنك لي عاشق ... وأنك بي مستهام وصب
فلو كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نهزة للكرب
وأنت ببغداد ترعى بها ... نبات اللذاذة مع من تحب
فيا من جفاني ولم أجفه ... ويا من شجاني بما في الكتب
كتابك قد زادني صبوة ... وأسعر قلبي بحرّ اللهب