للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- قال ابن الكلبي إن الدير كان على ميل من الباب الشرقي.

- من الشعراء الذين زاروا هذا الدير أبو الفتح محمد بن علي المعروف بأبي اللقاء. قال إنه أقام به شهراً فقال فيه:

جنة لقبت بدير صليبا ... مبدعاً حسنه كمالاً وطيباً

جئته للمقام يوماً فظلنا ... فيه شهراً وكان أمراً عجيباً

[دير صليبا]

بالقرب من دمشق مطل على الغوطة حدثني أبو بكر محمد بن عمر قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل النحوي، قال: حدثني بعض بني حمدون عن شيوخه قال: كنت مع المتوكل لما شخص إلى الشام، فلما صرنا بحمص قال أريد أن أطوف كنائس الرهبان كلها، والموضع المعروف بالفراديس إذا وصلنا إليها فإني كنت أسمع بطيب هذا الموضع، فقلت الرأي ما رآه أمير المؤمنين. ثم أنزلنا منزلاً بين كنائس عظيمة وآثار قديمة، ترتاح النفوس إليها، ويشتهي من ينزلها ألا يرتحل عنها. فلما استراح من نصب الركوب استدعاني وقال: هل لك في التطواف؟ قلت: كما أمر أمير المؤمنين. فأخذ بيدي، فلم يزل يستقري تلك الكنائس والديارات، ويشاهد فيها من عجائب الصور وفاخر الآلة، ويرى من أحداث الرهبان وبنات القسيسين وجوهاً كأنها أقمار في غصون، تتثنى في تلك الأروقة والصحون، وكلما مرّ بنا شيء من ذلك يقول لي: ترى ويحك ما نحن فيه؟ ما شاهدت مثل هذا قط! ثم خلونا براهب من قوام الكنيسة، فلم يزل المتوكل يسأله عن حال كل جارية وغلام يمر به، واسمه ونسبه، وهو يمشي، إذ لمح كتابة على حائط الكنيسة، فقربنا من ذلك فإذا هو: حضر الغريب المشرد الحريب وهو يقول: شتت شملي بعد الإلفة، وشقي جسمي بعد الكلفة، ومشيت من العراق إلى هذا الرواق، وارتحلت عنه في ذي الحجة من سنة إحدى ومائتين، وأنا أقول:

آل أمري إلى أخس الأمور ... وتبدلت كربةً بسرور

واعترتني من الزمان خطوب ... تتبارى في هتكة المستور

نفس صبراً لحادثات الليالي ... كل شيء يذل للمقدور

فقال: ويحك! ما أطرف هذا المسكين، وما أحرق هذا الأنين ونحن في ذلك، إذ مرت بنا جارية ما رمقت عيني لها شبيهاً، وعليها جوب وفي يدها دخنة تدخن بها ... فقال لها المتوكل: تعالي يا جارية. فأقبلت بحسن أدب وكمال. فقال للراهب: من هذه؟ فقال: ابنتي. قال: وما اسمها؟ قال: سعانين. قال المتوكل: اسقيني ماء. فقالت له: يا سيدي، ماؤنا ها هنا من ماء الغدران، ولست أستنظف لك آنية الرهبان، ولو كانت ترويك لجدت بها لك.

ثم أسرعت، فجاءت بكوز من فضة فيه ماء، فأومأ إلي أن أشربه، فشربته. واشتد عجبه بها وشهوته لها. فقال لها: يا سعانين! إن هويتك تسعديني؟ فتنفست وقالت: أما الآن فأنا عبدتك، وأما إذا عرفت صحة حبك، وتنكنت من قلبك، فما أخوفني من حدوث الطغيان عند تمكن السلطان. أما سمعت قول الشاعر:

كنت لي في أوائل الأمر عبداً ... ثم لما ملكت صرت عدوا

أين ذاك السرور عند التلاقي ... صار مني تجنباً ونبوا

فطرب المتوكل وكاد يشق قميصه، ثم قال لها: فهبي لي نفسك اليوم حتى نشرب أنا وأنت، فإني ضيفك. قالت له: بالرحب والسعة.

ثم أصعدت بنا إلى علية مشرفة على تلك الكنائس كلها، فرأينا منظراً حسناً، ثم مضت فجاءت بآدام نظاف ورقاق، وكأن المتوكل عافها لعزة الخلافة، فاستأذنها في إحضار طعام، فأذنت. فجيء بخروف وسنبوسج، وأشياء قريبة المأخذ من طعام مثله. فاستظرفت ما جيء به، واستهولت الآلة، ففطنت لأمر المتوكل فقامت قائمة بين يديه تخدمه وتكفر له، فمنعها.

ثم جاءنا أبوها بشراب من بيت القربان، ذكر المتوكل أنه لم ير مثله قط. فشرب وشربت معه، واستعفيته من أجل حمى كانت لحقتني في تلك الليلة. فأعفاني. وسرّ بها وبظرفها، وحلاوة منطقها، سروراً تاماً. فلما أخذ الشراب منها قالت: أغنيك يا سيدي من غنائنا، على ضعف الصنعة؟ فكاد أن يهيم، وقال: إن فعلت كمل والله ظرفك. فقامت فجاءت بشيء ويسمونه " القيثارة " وضربت واندفعت تغني:

يا خاطباً مني المودة مرحباً ... سمعاً لأمر لا عدمتك خاطبا

أنا عبدة لهواك فاشرب واسقني ... واعدل بكأسك عن خليلك إن أبى

قد والذي رفع السماء ملكتني ... وتركت قلبي في هواك معذبا

<<  <   >  >>