فهبني نعم قد كتمت الهوى ... فكيف بكتمان دمع سرب
ولولا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي الناجيات النجب
فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادماً على البريد حتى حدرها إلى بغداد في الفرات، وأمر المغنين جميعاً، فغنوا في شعره.
[دير سعد]
دير سعد بغربي الموصل قريب من دجلة، منسوب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان.
قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني: أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال وجدت في كتاب بخط الضحاك قال: خرج عقيل بن علفة وابناه: علفة وجثامة، وابنته الجرباء حتى أتوا بنتاً له ناكحاً في بني مروان بالشام فآمت. ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق، فقال عقيل بن علفة:
قضت وطراً من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
إذا هبطت أرضاً يموت غرابها ... بها عطشاً أعطينهم بالخزائم
ثم قال: أنفذ يا علفة، فقال علفة:
فاصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسم
ثم قال: أنفذي يا جرباء، فقالت: وأنا آمنة؟ قال: نعم. فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخدية ... عقاراً تمشّى في المطا والقوائم
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة! لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك، أما وجدت من كلام غير هذا! فقال جثامة: وهل أساءت! إنما أجازت، وليس غيري وغيرك، فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرحل، ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيراً مع ناقة الجرباء. ثم قال: لولا أن تسبني بنو مرة ما ذقت الحياة.
ثم خرج متوجهاً إلى أهله وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على أهل أبير) وهم بنو القين (ندم عقيل على فعله بجثامة. فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت؟ قالوا: نعم. قالوا فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه وتقسموا الجزور، وأنزلوه عليهم، وعالجوه حتى برأ، وألحقوه بقومه، فلما كان قريباً منهم تغنى:
ايعذر لاحينا ويلحين في الصبا ... وما هن والفتيان إلا شقائق
فقال له القوم: إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفاً وقد عاودت ما يكرهه فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر، فقال: إنما هي خطرة خطرت والراكب إذا سار تغنى.
[عمر سفر يشوع]
عمر سفر يشوع: أسفل مدينة واسط.
حدثني أبو عبد الله الواسطي، الشاعر المعروف بابن الآجري قال: كنت أعاشر جماعة من أهل الظرف وأولاد الرؤساء ونجتمع على الشراب دائماً. فدعانا فتى منهم إلى العمر الذي في أسفل مدينة واسط، ويعرف العمر بعمر سفر يشوع. فمضينا ومعنا من الغناء والآلة والشراب كل شيء ظريف، وأقمنا ثلاثة أيام، ومضت لنا به أوقات طيبة، وانصرفنا في اليوم الرابع وتفرقنا بعد ذلك للمعايش والمتصرفات. فلما كان بعد ذلك بشهور دعينا إلى العمر، فلما حصلنا في القلاية التي كنا شربنا فيها في تلك الدفعة قال لنا الفتى: ألا أخبركم بحالي بعدكم؟ قلنا: بلى.
قال: إنكم لما انصرفتم من عندنا جاءني شاب له رواء ومنظر حسن، ومعه غلام نظيف الوجه في مثل زيه، أحسبه حبيباً له. فقال لي: أين الفتيان الذين كانوا عندك مجتمعين؟ فقد غلسوا في الانصراف. فحزن وتبينت الكآبة في وجهه. ثم سألني عن حالكم، وما صنعتم، وكم أقمتم. فحدثته فانبسط، واستدعى ما أكل هو وصاحبه، وأخذا في الشرب، وطربا، وأقاما على حالهما ثلاثة أيام، ففعل مثل فعلكم. فلما كان في اليوم الرابع ودعني وأخذ فحمة وكتب على حائط البيت شعراً، وقال: إن عادوا أوقفهم عليه، وانصرف.
فنهضنا إلى البيت فإذا هو:
إخوتي إني سمعت بكم ... قصدت العمر من طرب
فوجدت الدهر فرقكم ... وكذا الدهر ذا نوب
وسألت القس ما فعلوا ... فأجاب القس بالعجب
ففعلنا مثل فعلكم ... وشربنا من دم العنب
بنت كرم عتقت زمناً ... منذ عهد اللات والنصب
وجنينا الحلو من ثمر ... وأكلنا يانع الرطب