- أكبر حاجتي هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم، قال: نعم هذا فرض علينا في ديننا، أوصانا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فهل غير هذا؟ قالت: أنا في هذا الدير ملاصقة لهذه الأعظم البالية من أهل بيتي وملَّتي حتى ألحق بهم، وأمر لها بمال وكسوة فقالت: ما لي بشيء مما بذلته حاجة، معي عبدان يزرعان مزرعة أتقوت منها بما يمسك رمقي، وأصرف ما بقي في ضعفاء أهل ديني، وقد اعتددت بقولك فعلاً، وبعدتك نقداً، ولكن اسمع مني دعاء كان يدعو به لأملاكنا: " شكرت لك يد افتقرت بعد غنى، ولا وصلتك يدٌ استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا أزال عن كريمٍ نعمة، إلا جعلك سبباً لردّها إليه ".
وهذا الدير يقارب بني عبد الله بن دارم بالكوفة، مما يلي الخندق، في موضع نزه، وقد ذكره عدّة من الشعراء، منهم معن بن زائدة الشيباني وكان هناك منزله، وفيه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... لدى دير هند والحبيب قريبُ
فتُقصى لبانات وتُلقى أحبَّةٌ ... ويورق غُصن للسرورِ رطيبُ
وفيه يقول أيضاً:
لئن طال في بغداد ليلي فربَّما ... يُرى بجنوب الدير وهو قصيرُ
قال أبو الفرج: ودخل إليها المغيرة بن شعبة وقد عميت فحادثها طويلاً، ثم خطبها، فضحكت وقالت: شيخ أعور، وعجوز عمياء! والصليب ما أردتني طلباً للنسل، ولا رغبة في مال، ولا شغفاً بجمال، ولكنك أردت أن تقول: نكحت ابنة النعمان! انصرف راشداً، فانصرف وهو يقول:
أدركتِ ما منيت نفسي خالياً ... لله درّك يا ابنةَ النُّعمانِ
فلقد رَدَدْتِ على المغيرة ذهنه ... إن الملوكَ ذكية الأذهانِ
يا هند إنكِ قد صدقتِ، فأمسكي ... والصدقُ خيرُ مقالةِ الإنسانِ
إني لحلفك بالصليب مصدِّقٌ ... والصلبُ أصدقُ حلفةِ الرهبان
وكان بعد ذلك شباب الكوفة يخرجون إلى هذا الدير متنزهين، يأكلون في رياضه ويشربون، وفي دير هند هذا يقول أبو حيّان:
يا ديرَ هندٍ لقد أصبحتَ لي أنساً ... ولم تكن، كنتَ لي يا دير مِئناسا
سَقياً لظلك ظلاً كنت آلفه ... فيه أعاشر قسيساً وشماسا
قدماً وقد كانت الأوقاتُ من طربٍ ... ومن سُرورٍ به يا قوم أعراسا
لا أعدم اللهو في أرجاءِ هيكلهِ ... ولا أردُّ على الساقي به الكاسا
دير هند الكُبرى
دير هِند الكُبرى بالحيرة هو دير بنته هند الكبرى أم عمرو بن هند، وهي هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكل المرار الكندي، وكان في صدره مكتوب: " بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك خسرو أنو شروان، وفي زمن أفراييم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيّتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما ويقومهما إلى إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهر ".
قال أبو الفرج: فحدثني جعفر بن قدامة، عن محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن أبيه قال: دخلت مع يحيى بن خالد - دير هِند الأول، لما خرجنا مع الرشيد إلى الحِيرة، وقد قصدها ليتنزه بها، ويرى آثار المنذر، فرأى قبر أبيها النعمان، وقبرها إلى جانبه، ثم خرج إلى دير هند الآخر، وهو الأكبر، وهو على طف النجف، فرأى في جانب حائطه كتابة، فأمر بسلّم، فأحضر، وأمر بعض أصحابه أن يرقى إليها، فإذا هي:
إنَّ بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شادَ البيعةَ الراهب
تنفحُ بالمسك ذفاريُّهم ... وعنبرٍ يقطبُه القاطبُ
والقزُّ والكتان أثوابهُم ... لم يجب الصوفَ لهم جائبُ
والعزُّ والملكُ لهم راهنٌ ... وقهوةٌ ناجودها ساكبُ
أضحوا وما يرجوهم طالبٌ ... خيراً ولا يرهبهمُ راهبُ
كأنهم كانوا بها لعبةً ... سار إلى أين بها الراكبُ
فأصبحوا في طَبقات الثرى ... بعد نعيمٍ لهم راتبُ
شرُّ البقايا من بقي منهمُ ... قلٌّ وذلٌّ جدّه خائبُ
قال: فبكى يحيى لما قُريء هذا الشعر، وقال: هذه سبيلُ الدنيا، وانصرف عن وجهه ذلك.