أما تعريف الخطيب فهو أضيق دائرةً من تعريف عبد القاهر؛ لأنه حصره في إسناد الفعل وما في معناه فقط، وكان حريًّا به أن يستفيد من كلام عبد القاهر في هذا الباب وهو صاحب الفضل الأكبر في تجلية هذا اللون من المجاز الحكمي. وتحرير القول فيه على نمط فريد لم يسبق إليه، وقد أشبعه عبد القاهر شرحًا وتفصيلًا في كتابيه (الأسرار) و (الدلائل) فلم يترك فيه مجالًا لمستزيد.
ولذلك أرى أن تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي هو التعريف الأمثل، ومذهبه فيه هو المذهب الجزل، وقوله هو القول الفصل؛ نعم، كانت هناك إشارات لهذا المجاز وأمثلته عند بعض المتقدمين -كما ذكرنا- كسيبويه وأبي عبيدة والفراء والجاحظ والآمدي والشريف الرضي؛ لكنها لا تعدو أن تكون بذورًا متناثرة هنا وهناك، وهي في الغالب الأعم لا تتجاوز التلميح إلى التصريح، فهي إشارات عابرة وتعليقات مقتضبة لا رابطَ بينها إلى أن جاء عبد القاهر ف قرأ حصيلة الدراسات السابقة، وجمع شتاتها، وفصل القول فيها، ووضع لها هذه التسمية المجاز الحكمي أو المجاز العقلي، وبذل جهدًا كبيرًا في الحقيقة في التفرقة بينه وبين المجاز اللغوي، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير ب بصيرته النافذة وثقافته الواسعة وخياله الرائع؛ ف المجاز العقلي تسمية وتحديدًا وتحريرًا هو من ابتكار عبد القاهر.
بقي أن تعلم أنه دافع عن المجاز دفاعًا شديدًا ورد على شبه المعارضين له، وفند حججهم بأدلة قوية ونعى على هذا الصنف من الناس جهلهم بحقيقة المجاز، فقد أنكر بعض العلماء من الظاهرية وقوع المجاز في القرآن؛ لأنه يوهم الكذب والله منزه عنه هكذا قالوا، والجواب: أن الذي يمنع من صرفه عن الحقيقة إلى المجاز هو صفات الله تعالى؛ لعدم وجود قرينة المانعة، وأن كل مجاز لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الظاهر؛ وعلى ذلك فلا إيهامَ مع وجود القرينة.