للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاعله أو على غير مفعوله، وفي هذا التخييل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يدرك سحرها إلا صاحب الذوق البياني الرفيع، حيث يعينه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقةً ومجازًا، وإن شئتَ فقارن بين قولك: صام فلان نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وصار الناس في الطريق؛ يعني: على الحقيقة، وبين قولك على المجاز: صام نهاره وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، على المجاز، فستجد في الثاني روعة وطرافة في التعبير لا تجدها في الأول، وهذا أثر من آثار المجاز العقلي في التخييل، وهذا التخييل بحد ذاته يؤدي إلى المبالغة في إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، ف في قولك: أذل الحرص أعناق الرجال، جعلت الحرص فاعلًا للإذلال، وأصله: أذل الله أعناق الرجال بسبب الحرص، فبلغت في تأكيد المعنى حين أسندت الفعل إلى سببه، وهذا أبلغ في ذم الحرص من أسلوب الحقيقة.

وفي قولك: جرى النهر، مبالغة في كثرة الفعل وطغيانه، ف قد جعلت النهر بضفافه ومائه وكل ما يحتويه يجري، مع أن الجريان للماء فقط، وإذا صح أن يقع الفعل من الفاعل المجازي وهو فرع فإن حدوثه من الأصل الذي هو الفاعل الحقيقي آكد فالمجاز العقلي إثبات للحكم بالدليل، وأنت تعرف -أو هكذا ينبغي أن تعرف- أن الدعوة المشفوعة بالبينة آكد وأقوى من دعوى لا تؤيدها بينة ولا يؤازرها دليل، هذا بالإضافة إلى ما في المجاز العقلي من الإيجاز الذي هو فن من فنون البلاغة، ولا شك أن قولك: صام نهاره أوجز وأبلغ من قولك: صام فلان في نهاره، وقولك: بنى الأمير المدينة أوجز وآكد في إثبات المعنى من قولك: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، وقولك: سال الوادي أكثر إيجازًا وأرقى بلاغةً من قولك: سال الماء في الوادي؛ لما في المجاز من الإيجاز والمبالغة والتخييل.

<<  <   >  >>