للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نخلص من هذا إلى أن بلاغة المجاز العقلي تكمن فيما يفيده من المبالغة في التعبير، وإيجاز القول، وإثارة الخيال، عندما يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، كما ترجع بلاغة المجاز العقلي إلى أنه يفتح أمام المتكلم الميدان للتفنن في القول، وتلوين العبارة، وإخضاع الكلام لما يريد، وتشكيل البناء حسب ما يهدف إليه ويرمي، ف هو يلجأ إليه لنفي تهمة أو لتخلص من جريمة، أو لتحقيق مقصد من المقاصد، حيث يجد في إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي مَيْدانًا رحبًا لتحقيق هذه المقاصد، ويتضح لك هذا من خلال تأملك لشواهد الإمام عبد القاهر وأمثلته. انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: ٢) تجد أن الفعل قد أسند إلى مكانه، وفي هذا الإسناد تخييل محرك ومثير، إذ يصور لنا الأرض فاعلةً جاهدةً تخرج أثقالها تقذف بنفسها ما بداخلها، فلا تُبقي في باطنها شيئًا.

وتأمل معي الشواهد الذي أسند فيها الفعل إلى سببه أو إلى زمانه أو إلى مكانه، نحو: بنى الأمير، ونهاره صائم، وليله قائم، وطريق سائر، ولاحظ ما فيها من الإيجاز وتقليل الألفاظ، وفضلًا عما ذكرناه من إفادة الإيجاز، تجد التجوزَ في تلك الأمثلة قد أفاد المبالغة في وقوع هذه الأفعال؛ لشدة اهتمام الأمير بالبناء، وتأكيد كمال الصوم وتمام القيام، وسرعة السير في الطريق، وكثيرًا ما يلجأ المتكلم إلى المجاز العقلي لتحقيق مقصد من المقاصد كما ذكرنا، فننظر مثلًا في ذلك إلى قولهم: فلان قتله جهله، وقضى عليه غروره، فهم يريدون بهذا تبرئة القاتل من جريمة قتله ونفي التهمة عمن قضى على غيره؛ وذلك بإسناد القتل إلى جهل المقتول وقضى إلى غرور المقضي عليه وتكبره وعجرفته، فقد وجدوا في المجاز العقلي تحقيقًا لهذا المقصد.

<<  <   >  >>