للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الزمان، والمتكلم قد يسوقه في سياق ترشد قرائنه إلى إفادة الثبوت والدوام والاستمرار، انظر مثلًا وتأمل إلى قول النضر بن جؤبة:

قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق

إنا إذا اجتمعت يومًا دراهمنا ... ظلت إلى طرق الخيرات تستبق

لا تألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق

والدرهم المضروب: هو المسبوك هنا تجد أن الشاعر يمدح قومه بالكرم والعطاء، فهم لا يبقون من المال بقية، وصرتهم لا تألف الدرهم، وإنما يمر عليها الدرهم منطلقًا ومندفعًا إلى الخيرات. مثل هذا المقام، يلائمه التعبير بالاسم: منطلق؛ لأنه يفيد انطلاق الدرهم انطلاقًا ثابتًا ومستمرًا، ولو قال: يمر عليها وهو ينطلق، لكان المعنى: أن انطلاقه يتجدد، وهذا يعني: أنهم يمسكونه زمنًا ما. ولا يخفى عليك عدم مناسبة ذلك لمقام المدح.

والبيت يروَى برفع الدرهم وبنصب الصرة، وبنصب الدرهم، ورفع الصرة. والرواية الثانية أبلغ؛ لأنها تدل على غِناهم، وأن الدراهم تمر، والصرة لا تألفها. أما الرواية الأخرى: ففيها إيهام أنهم فقراء، وأن الصرة خالية لا يألفها الدرهم المضروب، وخذ عندك قول الله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (الكهف: ١٨) إذ لا يخفى عليك ما يفيده الاسم هنا: {بَاسِطٌ} من ثبوت البسط ودوامه واستمراره، وأنه لو قيل: يبسط ذراعيه، لما أدَّى هذا الغرض. وتأمل مع ذلك قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} (الملك: ١٩) إنك تجد أنه لما كان الأصل في الطيران هو صف الأجنحة، فقد عبر عنه بالاسم الذي يفيد الثبوت والدوام، ولما كان القبض طارئًا على البسط فقد عبر عنه بالفعل الذي يفيد الحدوث والتجدد.

<<  <   >  >>