بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيشهدون، فتقول الأمم: مِن أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتَى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}(النساء: ٤١). وقيل: المعنى: لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا بما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يزكيكم ويعلم بعدالتكم، فإن قلتَ: لِمَ أخرت صلة الشهادة أولًا، وقدمت آخرًا؟ قلت: لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهيدًا عليهم.
ثم اقرأ قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}(الروم: ٢٧)، وقوله:{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}(مريم: ٩). تجد: أن الجار والمجرور قد أخِّر في الآية الأولى؛ لأنه لا معنى للدلالة على الاختصاص فيها؛ إذ كون الإعادة أهون من البدء أمر مسلم به لا ينكره أحد، أما في الآية الثانية فقد قدم الجار والمجرور؛ للدلالة على الاختصاص؛ لأن المقام يقتضي ذلك.
وقد يفيد التقديم بالإضافة إلى الاختصاص مزية أخرى وهي: المحافظة على الفواصل والاستمرار في التنغيم الصوتي، على نحو ما ترى في قول الله تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}(الحاقة:٣٠: ٣٢). فتقديم المفعول:{الْجَحِيمَ} على الجار والمجرور: {فِي سِلْسِلَةٍ} يفيد الاختصاص والمحافظة على الفاصلة واستمرار النغم الصوتي المؤثر في الأنفس. ومثله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(المدثر:١: ٥).