للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والواقع أن الشعراء المحافظين الذين جاءوا بعد البارودي عمقوا تجربته، وأكدوا محاولته ووسعوا خطوته، وجودوا الأسلوب الفني الذي أخذ به.

ولكن الواقع أيضًا أنهم وقفوا عند ذلك، ولم يسيروا بالشعر الحديث مرحلة جديدة، فهل نبرر مسلكهم كما بررنا مسلك البارودي؟ الجواب بالنفي، وذلك أن الزمن كان قد سار بهم، فابتعدوا عن أن يظلوا متصورين للعالم العربي القديم -حتى بما فيه من بداوة- كعالم مثالي أسطوري، ينقلون عنه ويغترفون منه، ويعبرون به عن عالمنا الجديد، كما أن الثقافة الفنية والأدبية قد أتيحت لبعضهم مثل شوقي، بما كان يتحتم معه أن يرى مناهج للشعر الحديث أكثر تلاؤمًا من المناهج القديمة، التي كانت لعصور غير عصورنا، ولحياة غير حياتنا. أو بتعبير آخر كان على مثل شوقي أن يدرك أن المثل الأعلى للشعر في العصر الحديث، يجب أن يكون غير المثل الأعلى الذي كان للشعراء العرب الذين عاشوا منذ أكثر من عشرة قرون١.

فحيث إن مرحلة الإحياء كانت قد تحققت بفضل البارودي، وابتعد الزمن بالشعراء المحافظين بعده عن أن يظلوا عند اتخاذ الماضي مثلًا أعلى للحاضر، وحيث قد أتيح لبعضهم من الفرص الثقافية ما كان يتحتم معه أن يدرك مثلًا أعلى للشعراء أكثر ملاءمة لروح العصر؛ فإن من العسير أن يدافع عن الشعراء المحافظين، ويبرر وقوفهم بالشعر عند مرحلة البارودي.

ولعل ذلك يؤيده قول الدكتور طه حسين في هؤلاء الشعراء المحافظين الذين جاءوا عبد البارودي: "وعندنا شعراء، ولكنهم لم يجددوا شيئًا، ولم يبتكروا ولم يستحدثوا، وإنما اكتسبوا شخصيتهم من القديم، واستعاروا مجدهم الفني من القدماء، فليس لهم إلا فضل واحد هو فضل الإحياء، وما زال ينقصهم فضل آخر، هو فضل الإنشاء والابتكار٢".

كذلك صور المنفلوطي تلك الظاهرة بشيء من المبالغة التي لا تُخفي كل


١ حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص١٩ وما بعدها.
٢ المصدر ص٩.

<<  <   >  >>