ففي الجزء الثالث من ديوان العقاد الأول، هذا الجزء الذي ظهر سنة ١٩٢١، نراه يعني بالتأملات الفكرية، والقضايا الذهنية، التي تصل أحيانًا إلى درجة التفلسف، كما نراه يبتعد عن التأثير بالقيم البيانية، ويركز اهتمامه على التأثير بالقيم الفكرية، ثم نراه يجعل صدق التجربة الشعرية، وتحقيق الوحدة العضوية في المحل الأول:
ومما يؤيد ذلك هذا النموذج الذي يتحدث فيه العقاد عن الإنسان، وحريته الفطرية، وما يكبلها به الإنسان نفسه من قيود مختلفة، وقد سمى الشاعر هذا النموذج "حانوت القيود"، وفيه يقول:
تزود منه الناس في كل حقبة ... وحجوا إليه موكبًا بعد موكب
يصيحون فيه بالقيود كأنهم ... سراحين في واد من الأرض مجدب
فمن قائل: عجل بقيدي فإنني ... طليق، ومن عان كثير التقلب
إذا أخطأ الأغلال قطب وجهه ... كئيبًا، وإن أثقلنه لم يقطب
فهذا إلى قيد من العقل ناظر ... وما العقل إلا من عقال مؤرب
يخفض من أهوائه كل ناهض ... ويغلب من آماله كل أغلب
ويمشي بأغلال التجارب معجبًا ... على غبطة منه لمن لم يجرب
وهذا إلى قيد من الحب شاخص ... وفي الحب قيد الجامح المتوثب
ينادي: أنلني القيد يا من تصوغه ... ففي القيد من سجن الطلاقه مهربي
أدره على لبي وروحي ومهجتي ... وطوق به كفى وجيدي ومنكبي
ورصعه بالحسن المسوم وأجله ... بكل سعيد في المناظر طيب
عزيز علينا أن نعيش وحولنا ... أسارى الهوى من فائز ومخيب١
وفي الجزء الرابع من ديوانه الأول، الذي صدر سنة ١٩٢٨، ومعه كل الأجزاء الثلاثة السابقة؛ نرى العقاد يسير في نفس الخط التجديدي الذهني، وربما يصل فيه إلى درجة أكثر نضجًا وأتم استراء، بل قد يصل إلى حد من التأمل الفلسفي ينتهي به -في بعض التجارب- إلى فلسفة السخط
١ انظر: ديوان العقاد ص٢٠٤-٢٠٥.