وَيُمْكِنُ إتْمَامُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا النَّظَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَعَ الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُرُودِ مَا يُحَرِّمُهُ، أَوْ يُبِيحُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] فَإِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إنْ انْتَفَعَ بِمَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ وُرُودِ مُحَرِّمِهِ، أَوْ مُبِيحِهِ لَا يُعَاقَبُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْمُحَرِّمُ فَقَدْ غَيَّرَ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ ثُمَّ إذَا وَرَدَ الْمُبِيحُ فَقَدْ نَسَخَ ذَلِكَ الْمُحَرِّمَ فَيَلْزَمُ مِنَّا تَغْيِيرَانِ وَأَمَّا عَلَى الْعَكْسِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ فَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ فَتَقَرَّرَ الدَّلِيلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، أَوْ نَقُولُ عَنَيْنَا بِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى لَا النَّسْخَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ.
وَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا أَيْ تَكَرُّرَ النَّسْخِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا هَذَا أَيْ كَوْنُ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُحَرِّمُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَوُقُوعِ
ــ
[التلويح]
الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ صَرْفًا لِلْخِطَابِ إلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ وَانْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا يَكُونُ الِاغْتِسَالُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ٢٢٢] بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا مَعْنَاهُ يَغْتَسِلْنَ مَجَازًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي الْكُلِّ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا) .
فَإِنْ قِيلَ: هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] قُلْنَا إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَّيْنِ الْمَفْرُوضَيْنِ أَعْنِي الْمُحَرِّمَ وَالْمُبِيحَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ أَيْ الْمُحَرِّمَ إنَّمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ إنْ قَدْ وَرَدَ أَيْ إنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي أَيْ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَمَانِ وُرُودِ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ دَالٌّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّ وُرُودَ هَذَا الدَّلِيلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي جَمِيعِ الصُّوَرِ بَلْ قَدْ، وَقَدْ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ بِوَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّظَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِتَمَامٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ وُرُودِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَتَغْيِيرُهُ بِالنَّصِّ الْمُحَرِّمِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ إلَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمُحَرِّمُ عَنْ دَلِيلِ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَبِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّسْخِ كَوْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا عِنْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى دَلِيلِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ.
(قَوْلُهُ: عَنَيْنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute