التَّحْرِيفَاتِ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ الِاعْتِمَادُ وَالْوُثُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ضَرُورِيًّا كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْإِبَاحَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِإِبَاحَتِهِ فِي الْأَزَلِ فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا عَدَمَ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فَحَقٌّ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْحَظْرِ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِحَظْرِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا الْعِقَابَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] وقَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] .
وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى الْوَقْفِ فَفَسَّرَ
ــ
[التلويح]
بِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى) أَيْ تَكَرُّرِ التَّغْيِيرِ سَوَاءٌ كَانَ تَغْيِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ لَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ التَّغْيِيرِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْسِ التَّغْيِيرِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ) إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ حُكْمِ الْأَفْعَالِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا، أَوْ مَكْرُوهًا.
قُلْت: الْمُرَادُ بِالْمُبِيحِ مَا يُقَابِلُ الْمُحَرِّمَ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى عَدَمِ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ لَهُ دَلِيلُ الْمَنْعِ، وَلَا دَلِيلُ عَدَمِهِ أَيْ لَمْ يُعْلَمْ تَعَلُّقُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ إلَّا عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ فَحُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْحُرْمَةُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَبَعْضِ الشِّيعَةِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ هِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الَّتِي لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهَا بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ، وَأَمَّا الَّتِي يَقْضِي فِيهَا الْعَقْلُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَمَلَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةٍ، فَأَمَّا فِعْلُهُ فَحَرَامٌ، أَوْ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهَا، فَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَأَمَّا فِعْلُهُ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ تَرْكُهُ فَمَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَيْضًا فَمُبَاحٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُورَدُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ عَلَى التَّنَزُّلِ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ لِلْعَقْلِ حُكْمًا بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَإِلَّا فَالْفِعْلُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيُقَالُ: عَلَى الْمُبِيحِ إنْ أَرَدْت بِالْإِبَاحَةِ أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ أَرَدْت خِطَابَ الشَّارِعِ فِي الْأَزَلِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَلْ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا حُكْمَ فِيهِ لِلْعَقْلِ بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ.
فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَبْدَ وَمَا يَنْتَفِعُ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ لَهُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ خَلْقِهِمَا وَإِلَّا لَكَانَ عَبَثًا خَالِيًا عَنْ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ نَقْضٌ فَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute