الْوَقْفَ تَارَةً بِعَدَمِ الْحُكْمِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَمْنُوعٌ مِنْ اللَّهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ وَالْأَوَّلُ حَظْرٌ وَالثَّانِي إبَاحَةٌ، وَلَا خُرُوجَ عَنْ النَّقِيضَيْنِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُبَاحَ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ أَوْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي شَيْءٍ لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِالْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَعَدَمِهِ فَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِالْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَعَدَمِ الْحَرَجِ لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ. وَهَذَا كَلَامٌ حَشْوٌ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، وَقَدْ فُسِّرَ الْوَقْفُ تَارَةً بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا وَإِنْ كَانَ حُكْمٌ، فَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ حَظْرٌ، أَوْ إبَاحَةٌ أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمًا لَازِمًا إمَّا بِالْمَنْعِ، أَوْ بِعَدَمِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ حَظْرٌ، أَوْ إبَاحَةٌ فَحَقٌّ فَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا عِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ بِالْإِبَاحَةِ إذْ لَا مَعْنَى لِلْإِبَاحَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الْفِعْلِ
ــ
[التلويح]
الْغَيْرِ فَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالْحِلُّ بِأَنَّهُ رُبَّمَا خَلَقَهُمَا لِيَشْتَهِيَهُ فَتَصِيرَ عَنْهُ فَيُثَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِبَاحَةِ عَبَثٌ وَيُقَالُ: عَلَى الْمُحَرِّمِ إنْ أَرَدْت حُكْمَ الشَّارِعِ بِالْحُرْمَةِ فِي الْأَزَلِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا مُحَرِّمَ، وَلَا مُبِيحَ بَلْ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّهُ لَمْ يُدْرَكْ بِالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَلَا قُبْحُهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ، وَإِنْ أَرَدْت الْعِقَابَ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا صَدَرَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ.
فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ بِالْحَظْرِ وَالْعِقَابُ عَلَى الِانْتِفَاعِ مُتَلَازِمَانِ فَكَيْفَ جَزَمَ بِبُطْلَانِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
قُلْت: الْحُكْمُ بِالْحَظْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِقَابَ لِجَوَازِ الْعَفْوِ، وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى الْمُحَرِّمِ إنَّ عَدَمَ الْحُرْمَةِ مَعْلُومٌ قَطْعًا، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ بَحْرًا لَا يُنْزَفُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجُودِ وَأَخْذُ مَمْلُوكِهِ قَطْرَةً مِنْ ذَلِكَ الْبَحْرِ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ تَحْرِيمُهَا، فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَتَحْرُمُ أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَقْلًا مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى السَّمْعِ، وَلَوْ سَلِمَ فَذَلِكَ فِيمَنْ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ مَا بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَالْمَالِكُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ الضَّرَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يُدْرَكْ بِالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَلَا قُبْحُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ، أَوْ إبَاحَتِهِ.
قُلْت: الْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ خَالِيًا عَنْ أَمَارَةِ الْمَفْسَدَةِ وَبِالْحُرْمَةِ عَدَمُهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي عَدَمَ إدْرَاكِ الْعَقْلِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ صِفَةً مُحَسِّنَةً، أَوْ مُقَبِّحَةً، وَأَمَّا التَّوَقُّفُ، فَقَدْ فُسِّرَ تَارَةً بِعَدَمِ الْحُكْمِ وَتَارَةً بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ أَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْ لَا يُدْرَكُ أَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا، وَأَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ تَصَوُّرِ الْحُكْمِ عَلَى التَّعْيِينِ مَعَ التَّصْدِيقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute