للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّأْيُ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] » أَيْ: لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ، وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَأَقَلُّ لِشَوْكَتِهِمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ) أَيْ: مِثْلُ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَبَعْضُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْرِكِينَ شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا إنْ كَانَ هَذَا عَنْ وَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ، فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ قَدْ كُنَّا نَحْنُ، وَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَهُمْ دِينٌ كَانُوا لَا يَطْعَمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالدِّينِ أَنُعْطِيهِمْ ثِمَارَ الْمَدِينَةِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ فَإِذَا أَبَيْتُمْ فَذَاكَ ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

ــ

[التلويح]

عَلَى مُجْتَهَدِهِ قَاطِعٌ لِلِاحْتِمَالِ كَالْإِجْمَاعِ الَّذِي سَنَدُهُ الِاجْتِهَادُ.

وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ لَوَازِمِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ؛ لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا تَوَقَّفَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ بَلْ اجْتَهَدَ وَبَيَّنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ فَأَشَارَ فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ إلَى جَوَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِانْتِظَارِ فَهُوَ شَرْطٌ لِاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا يَقْتَضِي زَمَانًا وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْمُخْتَارِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] .

الثَّانِي وُقُوعُهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَدَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ الثَّالِثِ. وُقُوعُهُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِصَّةِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَجَوَازُ قُبْلَةِ الصَّائِمِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلَلِ النُّصُوصِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِهَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِتَقْرِيبِ الْوُجُوهِ وَلِتَخْيِيرِ الرَّأْيِ إذْ لَوْ كَانَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِرَأْيِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إيذَاءً وَاسْتِهْزَاءً لَا تَطْيِيبًا وَإِنْ عَمِلَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ رَأْيَهُ أَقْوَى، وَإِذَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَبِرَأْيِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى

[فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ) أَيْ: شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا الْخُصُوصُ

<<  <  ج: ص:  >  >>