{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: ٤] وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: ١٢٢] الْآيَةَ. يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كُلِّ قَوْمٍ طَائِفَتَهُ الْمُتَفَقِّهَةَ فَإِنْ اتَّفَقَ الطَّوَائِفُ عَلَى حُكْمٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ وَحْيٌ صَرِيحٌ وَأَمَرُوا أَقْوَامَهُمْ بِهِ يَجِبُ قَبُولُهُ فَاتِّفَاقُهُمْ صَارَ بَيِّنَةً عَلَى الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] فَأُولُوا الْأَمْرِ إنْ كَانُوا هُمْ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِبُ إطَاعَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْحُكَّامُ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ السُّؤَالُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] فَإِذَا سَأَلُوهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَابِ يَجِبُ الْقَبُولُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ فَائِدَةٌ فَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْإِطَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَكَذَا بَعْدَهُ لِمَا مَرَّ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: ١١٥] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقِي فِي قُلُوبِ قَوْمٍ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَهْدِيُّونَ خِلَافَ
ــ
[التلويح]
وَالْفُسُوقِ وَلَيْسَ مَعْنَى إلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالنَّفْسِ الْمُزَكَّاةِ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ.
وَالْعَجَبُ مِنْ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَيْفَ رَدَّ اسْتِدْلَالَاتِ الْقَوْمِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً، وَأَوْرَدَ مِمَّا سَنَحَ لَهُ مَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْكِتَابِ مِمَّا اتَّفَقَ لَهُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ وَلَا يُوجَدُ فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ إذْ لَا دَلَالَة لِلْمَجْمُوعِ أَيْضًا قَطْعًا.
(قَوْلُهُ: وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ) اسْتِدْلَالٌ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ مَنَعَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا مَظِنَّةَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ إجْمَاعُ الْعِتْرَةِ أَجَابَ بِأَنَّ مَا نَدَّعِي كَوْنَهُ حُجَّةً أَخَصُّ الْإِجْمَاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ إجْمَاعُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعِتْرَةِ بِخِلَافِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ الْعِتْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إجْمَاعَ الْكُلِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ فِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ مِنْ الْعِتْرَةِ أَوْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ، وَلَا تَدُلُّ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى مَطْلُوبِنَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمْ هُوَ اشْتِمَالُ إجْمَاعِ الْعِتْرَةِ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى، وَالْبِدَعِ
[الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ]
(قَوْلُهُ: ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ) فَالْأُولَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ. وَالثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute