للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّرْكِ، وَهَذَا حَاصِلٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ أَيُّهُمَا وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ» الْحَدِيثَ «إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» .

(وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا فَإِنْ كَانَ النَّفْيُ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ كَانَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ بِهِ بَلْ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْمُثْبِتُ، أَوْلَى لِمَا قُلْنَا فِي الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ يُنْظَرُ فِيهِ) أَيْ إنْ احْتَمَلَ النَّفْيُ أَنْ يُعْرَفَ بِدَلِيلٍ وَأَنْ يُعْرَفَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ النَّفْيِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ يَكُونُ كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى.

(فَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ» مُثْبِتٌ

ــ

[التلويح]

بِثُبُوتِ حُكْمٍ فِي الْجُمْلَةِ أَيْ لَا يُدْرَكُ أَنَّ الْحُكْمَ حَظْرٌ أَوْ إبَاحَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْحُكْمِ فَبَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ جَزْمٌ بِعَدَمِ الْحُكْمِ لَا تَوَقُّفٌ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُسَمَّى تَوَقُّفًا بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْعَمَلِ بِالْفِعْلِ تَكَلُّفٌ.

وَثَانِيهَا أَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْبَعْثَةِ إذْ لَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ سِوَى التَّحَرُّزِ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَرُدَّ بِأَنَّ تَجْوِيزَ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِوُقُوعِهِ، وَلَوْ سَلِمَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَتَجْوِيزُ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْأَشْعَرِيِّ بَلْ هُوَ يُنَافِي مَذْهَبَهُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَلَا يَصْلُحُ إلْزَامًا لَهُ.

وَثَالِثُهَا أَنَّ الْفِعْلَ إمَّا مَمْنُوعٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْرُمُ، أَوْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ فَيُبَاحُ وَأَجَابَ الْإِمَامُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ الْإِبَاحَةَ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، وَهَذَا مَعْنَى إعْلَامِ الشَّارِعِ نَصًّا، أَوْ دَلَالَةً بِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَعَدَمُ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ.

وَاعْتِرَاضُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ ظَاهِرٌ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ إلَى أَنَّ لِلْعَقْلِ حُكْمًا فِي الْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِبَاحَةِ إذْنُ الشَّارِعِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بَلْ مَعْنَاهَا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ خَالِيًا عَنْ أَمَارَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَمِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ. وَمَنْشَأُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ عَدَمُ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَحْقِيقِ مُرَادِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ الشَّارِعِ لِعَدَمِ الْبَعْثَةِ، وَلَمْ يُدْرِكْ فِيهِ الْعَقْلُ جِهَةَ حُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ مَثَلًا فَهَلْ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ يَحْكُمُ حُكْمًا عَامًّا بِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ مَأْذُونٌ فِيهِ، أَوْ مَمْنُوعٌ عَنْهُ وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَنَّ مَا لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ أَيْ مَا لَمْ يُدْرِكْ الْعَقْلُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَيْ مَأْذُونًا فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>