بقُرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق، وجمع فيها من الروايات والسّماع كل مفترق، وجال في آفاق ذلك الأفق، لا يستقر في بلد، ولا يستوطن في جَلد ثم كرّ إلى الأندلس فَسَمت رُتبَتُه، وتحلَّت بالأماني لبَّته، وتصرّف في وِلاياتٍ أُحمِد فيها منَابُه، واتصلت بسببها بالخليفة أسبابُه، وولاّه القضاء بقُرطبة، فتولاه بسياسة محمودة، ورياسة في الدين مُبرمة القوى مجهودة والتزم فيها الصّرامة في تنفيذ الحقوق، والحَزامة في إقامة الحدود،
والكشف عن البيّنات في السّرّ، والصّدع بالحق في الجَهر، لم يستلمه مُخادع، ولم يَكِده مُخاتل، ولم يَهب ذا حُرمة ولا داهن ذا مَرتِبة، ولا أغضى لأحد من أسباب السّلطان وأهله حتى تحاموا جانبه، فلم يجسر أحد منهم عليه، وكان له نصيب وافر من الأدب، وحظّ من البَلاغةِ إذا نظم وإذا كتب، ومن مُلَح شِعره ما قاله عند أوبته من غربته:
كَانْ لم يَكُ بَينٌ ولم تَكُ فُرقَةٌ ... إذَا كانَ مِنْ بَعْد الفِرَاقِ تَلاَقِ
كأن لم تُؤرَّق بالعِرَاقين مُقْلَتي ... ولم تَمْر كفّ الشَّوْقِ ماَء مَآقِ
ولم أَزُرْ الأعرابَ في جَنْب أرْضِهم ... بِذَاتِ اللّوى من رَامةٍ وبِرَاقِ