للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلم / أنَّ طلبَ الصاحب أمر مقصود عند العقلاء؛ لأنه لا بدّ من خلٍّ تسكن إليه [١٤ أ] فتشكو إليه حزنك، وتنتصر به على مَن ظلمك، وتتخذه عونا على مآربك، وكان الكندي يقول: الصديق إنسان هو أنت، وفي المثل: ربَّ أخٍ لك لم تلده أمك، وقال بعض الحكماء: ينبغي للعاقل أن يتخذ صديقا ينبهه على عيوبه، فإن الإنسان لا يرى عيب نفسه، وأقل الأصدقاء حالة مَنْ تشكو إليه، ولم يكن عنده غير سماع الشكوى والإصغاء؛ لأن سماع الشكوى وبثّها، فيه تخفيف عن المكروب، والنفس تستريح إليه، ولهذا قال الشاعر (١): (من الطويل)

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع

وإنْ يكُ منْ وصْفِ المروءةِ خالِياُ ... يرائيك أو يبكيكَ أو ليس يسمع

كأن المشكو إليه إمَّا أن يواسيك في همك، وهذه الرتبة العليا، وهو الصديق الحكيم المهذب، وإمَّا أنْ يتوجع، وهذه الرتبة السفلى، وهو الصديق العاجز، فإن خلا الصديق من هذين، كان وجوده وعدمه سواء، بل عدمه خير من وجوده.

ومن شواهد العربية (٢): (من الطويل)

إِذا أَنتَ لَم تَنفَع فَضُرَّ فَإِنَما ... يُرَجَّى الفَتَى كَيما يَضُرُّ ويَنفَعُ

واعلم أنَّ هذا البيت، وهو قوله: ولا بدّ من شكوى، وأمثاله، يسميه أرباب البديع صحة التقسيم، وأوردوا فيه قول الآخر (٣)، وهو في غاية الرقة: (من الطويل)

سريت إليه والظلام كأنه ... صريع كرىً والنجم في الأفق شاهد

فلو أن روحي مازجت ثَمَّ روحه ... لقلت ادن مني أيها المتباعد

ومن هذه المادة قول ابن سناء الملك (٤): (من الكامل)

لَوْ جُدْت لي بالنَّفْس منك لقلتُ من ... شَرَهِ المحبَّة إِنَّهُ لَبخيلُ

والكل أخذوا / من ابن الرومي (٥)؛ للأنه قال فأطاب، وإن طال: (من الطويل) ... [١٤ ب]

أعانقه والنفسُ بعدُ مشوقةٌ ... إليه وهل بعد العناق تداني

فألثمُ فاه كي تموت حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان

ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليَشْفِيَهُ ما ترشُفُ الشَّفَتانِ

كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه ... سوى أنْ يرى الروحَيْن يمتزجان


(١) نسب البيت الأول لكل من بشار بن برد، وابن نباتة المصري، وهو في ديوانيهما (م)، أما البيت الثاني فلم أقف على قائله.
(٢) للنابغة الجعدي، ديوانه / (م).
(٣) ذكره ابن أبي حجلة في ديز\وان الصبابة، ص ٤٤٨، ولم يذكر قائله.
(٤) ديوانه (م)
(٥) ابن الرومي، ص ٧١

<<  <   >  >>