للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو مأخوذ من قول مجنون بني عامر (١): (من الطويل)

أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى ... وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ

نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا ... لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ

ولمح المعنى منه محمد بن يحيى بن حزم، فقال: (من الطويل)

إذا طلعت شمس عليك بسلوةٍ ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها (٢)

وقل المجنون (٣): (من الكامل)

وَشَغِلتُ عَن فَهمِ الحَديثِ سِوى ... ما كانَ مِنكَ وَحُبُّكُم شُغلي

وَأُديمَ نَحوَ مُحَدِّثي نظري كأنيَ ... قَد فَهِمتُ وَعِندَكُم عَقلي

ومن هنا أخذ أمين الدين جوبان (٤) قوله: دوبيت

لا أسمعُ الحديثَ عن غيرِكم من لذّةِ فكري واشتغالي بكم

ألوي نظري كأنني أفهمُهُ من قائله وخاطري عندكم

ولعمري إنّ هذه الاستعارات التي في كلام الطغرائي واقعة مواقعها، وهي في غاية الحسن، والاستعارة عند أرباب البيان، هي ادّعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين لفظا أو تقديرا، ألا ترى أنه شبّه الليل وإرادة النوم على المقل بالراعي الذي يسوق الماشية إلى المرعى، وشبّه منعه النوم صاحبه، وشغله عنه بالطرد كالذي يطرد السرح عن ورود الماء، ولا شكّ أنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه، وأوقع في النفس، وانظر إلى قوله تعالى: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا] (٥) وإلى ما فيه من الطلاوة، بخلاف ما إذا قيل: وشيب الرأس كالنار يشتعل، فهو أدعى أن حقيقة الاشتعال في الشيب دون النار، ووجه المناسبة التي حسّنت هذه الدعوى، [أن الشيب] (٦) لمّا كان بياضا يأخذ في /* (٧) الشعر الأسود شيئا فشيئا إلى أن يقوى ذلك ويشتد حتى يأتي على السواد جميعه، فيذهبه حُسن إدعاء الحقيقة، كما أن النار تأخذ في الفحم شيئا فشيئا، وتدب دبيب الشيب في الشَّعَر حتى تأتي على الفحم، ومن هنا عيب على القائل (٨) قوله: (من الكامل)


(١) ديوانه، (م)
(٢) البيت في الغيث المسجم ١/ ٢٩٣
(٣) ديوانه، (م)
(٤) جوبان، أمين الدين القواس: جوبان بن مسعود بن سعد الله، أمين الدُّنيسري القواس التوزي الشاعر. كان من أذكياء بني آدم وله النظم الجيد. كتب عبد الرحمن السّبتي وغيره. وقال شمس الدين الجزري: اسمه رمضان، وقال: لم لم يكن يعرف الخط ولا النحو. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله قال شيخنا شهاب الدين محمود: ابن جوبان كان يدّعي الأميّة وكان بخلاف ذلك، قرأ وكتب وحفظ المفصّل، وتوفي في حدود الثمانين وستمئة. الوافي بالوفيات، ص ٨٧٩٩ ـ ٨٨٠٠، والبيتان في الغيث المسجم ١/ ٢٩٣
(٥) مريم ٤
(٦) زيادة من الغيث المسجم ١/ ٢٩٣، ويقتضيها السياق ليتضح المقصود.
(٧) * من هنا تبدأ الصفحة [٢٤ أ] في المخطوطة ب.
(٨) للفرزدق، ديوانه، ص ٣٢٣

<<  <   >  >>