للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو بين أنه إنما يكون قياس إذا أخذ شيء واحد مكررا مرتين- أعني إذا نسب إلى الحدين نسبة حمل أو وضع- وهو الحد الأوسط، وأنه إن كان الحد الأوسط شيئين لم يكن قياس إذ لا يكون قياس يوجب أن أحد الطرفين موجود للآخر أو مسلوب عنه. وأما ما يظن أنه قد يكون قياس إذا أخذ شيئان للطرفين مختلفان كالأضداد وبالجملة ما لا يمكن أن يجتمعا في شيء واحد، فإن ذلك راجع إلى أن قوة ذلك قوة أخذ شيء واحد موجب لأحدهما ومسلوب عن الآخر، ولولا ذلك لم يكن منتجا. مثال ذلك إن بين مبين أن اللذة ليست بغاية إنسانية من قبل أن اللذة شر والغاية الإنسانية خير، فإنه إنما ينتج من هذا أن اللذة ليست بغاية إنسانية من جهة أنه ينتج أولا أن اللذة ليست بخير من جهة أنها شر. فإذا أضاف إلى هذه النتيجة أن الغاية الإنسانية خير، أنتج له أن اللذة ليست بغاية إنسانية. فإذن أمثال هذه المقاييس هي أقيسة مركبة من أكثر من شكل واحد، لا أنها قياس رابع بسيط. فمن اعتقد في مثل هذا أنه قياس واحد فهو بمنزلة من اعتقد فيما هو مركب أنه بسيط، ومن اعتقد ذلك لم يعرف ما هو القياس البسيط، ومن لم يعرف ما هو القياس البسيط لم يعرف القياس بإطلاق.

وأقيسة الخلف إنما تكون بهذا النحو من النظر- أعني بالأشياء التي تنسب إلى كل واحد من الحدين- وهي ثلاثة كما قلنا، إما أشياء توضع له، وإما أشياء تحمل عليه، وإما أشياء تسلب عنه إما على جهة الحمل وإما على جهة الوضع إذ كان ذلك غير مختلف في السلب على ما قيل. وذلك ظاهر من أن كل مطلوب يبين بقياس حملي يمكن أن يبين بتلك الحدود بأعيانها بقياس الخلف، وكذلك كل مطلوب يبين بقياس الخلف فيمكن أن يبين بتلك الحدود بأعيانها بقياس حملي. مثال ذلك أنه إذا كان عندنا أن بَ موجودة في كل اَ وغير موجودة في شيء من هَ، وأردنا أن نبين بهاتين المقدمتين أن اَ غير موجودة في شيء من هَ بطريق الخلف، قلنا أن اَ غير موجودة لشيء من هَ، وإلا فلتكن اَ موجودة ببعضها وقد كان معنا أن بَ موجودة في كل اَ، فينتج لنا أن بَ موجودة في بعض هَ، وقد كانت غير موجودة في شيء من هَ، هذا خلف لا يمكن. وإن أردنا أن ننتج ذلك عن طريق الحمل، قلنا إن اَ غير موجودة في شيء من هَ، لأن بَ غير موجودة في شيء من هَ وموجودة في كل اَ.

وكذلك يبين الأمر في جميع المطالب، وذلك أن كلا القياسين- أعني الجزمي والسائق إلى المحال- إنما يكتسبان بأخذ لواحق الطرفين أو بموضوعاتها، وبأخذ شيء واحد يكرر فيهما. وإنما الفرق بينهما أن القياس السائق إلى المحال يأتلف من مقدمتين، إحداهما المقدمة الحق والأخرى كذب، فينتج نقيض المقدمة الحق الثانية. والقياس الحملي يأتلف من المقدمتين الحق لا غير. فلا بد في كل قياس منهما من الاعتراف بمقدمتين، وذلك يكون بالطرق التي وصفنا. فإن اكتفى بهما كان القياس حمليا، وإن أخذ نقيض المطلوب وأضيف إليه أحدهما كان قياس خلف. وسيبين ذلك أكثر إذا تبينت أنواع المقاييس الحملية الواقعة في قياس الخلف. وكذلك المقاييس الشرطية مضطرة إلى هذا النحو من النظر، إذ قد تبين أنه لا يبين مطلوب بقياس شرطي دون أن يقترن به قياس حملي- وهو الذي تبين به إما صحة المستثنى وإما صحة الاتصال. فهذا النحو من النظر يبين كل مطلوب كان في مادة ضرورية أو في مادة ممكنة.

وهو بين أيضا أنه ليس فقط بهذه السهيل يمكن أن يستخرج كل قياس، بل وأنه ليس يمكن أن يستخرج قياس بغير هذه السبيل، لأنه قد تبين أن كل قياس إنما يكون بواحد من الأشكال الثلاثة وأن هذه الأشكال الثلاثة إنما تكون من الأمور المحمولة على الطرفين أو الموضوعة على الطرفين. فإذن ليس يمكن أن يوجد قياس إلا من النظر في هذه الأشياء- أعني اللاحقة والموضوعة. فإن كان أيضا بينا أن كل قياس إنما يكون من النظر في هذه الأشياء، فهو بين من ذلك أن كل قياس إنما يكون بواحد من الأشكال الثلاثة ومن مقدمتين وثلاثة حدود.

<<  <   >  >>