للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الأمثلة الصريحة في ذلك ما رأيناه عند ابن جني خاصة من القيمة التعبيرية لحرف الفاء إذا مازج الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، فأكثر أحوالها -كما قال- أنها للوهن والضعف، لكنا وقعنا من معانيها على الطبيعي والمتكلف، ولا تجد الصلة بين اللفظ ومدلوله إلّا "مكتسبة" في كل ما وصمناه بالتكلف١. ولتجدنَّها ذاتية لا مجالة في واحد من تلك المعاني الطبيعية، وهو الذي يمكن عده أصل الاشتقاق في تقاليب هذه المادة وصورها التي جرى بها الاستعمال.

وإما تَهُولنَّ الباحث كثرة الصور المتكلفة ذات الدلالة المكتسبة, فليعرض عنها حتى يجد في العربية مثلما يجد في غيرها من اللغات "نماذج" صريحة -وإن تَكُ قليلة- لألفاظ إنسانية اتضحت دلالتها التعبيرية الذاتية، وبلغت من الوضوح أن كانت لأصوات الطبيعة أشبه برجع الصدى أو ترداد النغم.

هذا الضرب من الألفاظ التي تحكي الطبيعة اصطُلِحَ على تسميته Onomatopoeia"، وقد اعترف بوجوده في اللغات الإنسانية المختلفة كل باحثٍ محقق يدرس اللغة على أنها ظاهرة اجتماعية؛ حتى الذين عارضوا مذهب الصلة بين اللفظ ومدلوله في إطاره العام لم يستنكفوا أن يعترفوا بوجود هذا الحد الأدنى من "النماذج" اللفظية ذات الدلالة الطبيعية الصريحة٢.

فلنرض النتائج العلمية الباهرة التي انتهى إليها عباقرة سلفنا، ولنسلك سبيلهم في التزام الحيطة وأخذ الحذر قبل القطع في الصورة التي نشأت عليها لغة الإنسان، ولنلاحظ أنهم لم يدلوا برأي لا رجعة فيه حول النشاة الأولى للغات البشر، وأنّ ابن جني مثلًا -وهو من


١ راجع ما ذكرناه سابقًا.
٢ قارن بدلالة الألفاظ ٦٦-٦٧.

<<  <   >  >>