للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أثقبهم فهمًا؛ وأرسخهم علمًا، وأوسعهم أفقًا- يبدو كالمتردد الحائر الذي "يقف في الحالتين حسيرًا ويكاثرهما فينكفئ مكثورًا"١، فلم يجهر بإعلان ما نُسِبَ إليه وإلى أستاذه أبي عليّ الفارسي، وإلى الخليل وسيبويه من قبل من أنّ أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسوموعات، بل رأيناه لدى عرض هذا الرأي يعزوه في مستهلّ عبارته إلى بعضهم؛ كأنمما يمهد لما إليه من تقبله والأخذ به، ثم يجد مقنعًا في استحسانه بقوله: "وهو عندي وجه صالح ومذهب مُتَقَبَّلُ"٢؛ فهو بين المذاهب الصالة أحدها, لكنه ليس المذهب الصالح الوحيد, وما هو لديه بالجدير أن يدافع عنه جهرة بإصرار وعناد.

وإن هذه العبارة لتشي باحتمال استحسانه مذهبًا آخر, أو قل: مذاهب أخرى، ولا نلبث أن نجد هذا الاحتمال قد تردد في صدره, ثم تحقق فيما كتبه بنفسه مستحسنًا القول بأنَّ هذه اللغة العربية توقيف ووحي. قال ابن جني: "واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذ الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التعول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يطمح به أمام غَلْوَةِ السحر!

فمن ذلك ما نبَّه عليه أصحابنا -رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتباعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وُفِّقُوا لتقدمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفُرِقَ لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة، بأنها من الله جلَّ وعَزَّ، فقوي في


١ الخصائص ١/ ٤٦.
٢ الخصائص ١/ ٤٤-٤٥, وقارن بما ذكرناه سابقًا أيضًا.

<<  <   >  >>