للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي هذه التفرقة بين الأصول وتقاليبها، نجد أيضًا شيئًا من التضييق على المكثرين من الاشتقاق الكبير، المتطفلين عليه، المتكلفين فيه، المولعين بتقليب المواد على وجوها المختلفة تلذذًا بهذا التقليب, وفي أمثالهم يقول ابن جني نفسه متبرمًا ضجرًا: " ... فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه، فشيء لم يعرض له١, ولا تَضَمَّنَ عهدته. وقد قال أبو بكر٢: "من عرف أنس، ومن جهل استوحش! ". وإذا قام الشاهد والدليل، وضح المنهج والسبيل"٣.

وللولوع بالاشتقاق الكبير ارتباط وثيق بمذهب المؤمنين بدلالة الحرف السحرية، وقيمته التبعبرية الموحية، عند أولئك الذي مالوا إلى الاقتناع بموجود التناسب بين اللفظ ومدلوله، في حالتي البساطة والتركيب، حتى رأوا إثبات القيمة التعبيرية للصوت البسيط, وهو حرف واحد في كلمة؛ كإثبات هذه القيمة نفسها للصوت المركب، كيفما كانت صورة تركيبه.

ولقد رأينا ابن جني في طليعة القائلين بهذه القميمة التعبيرية، للحرف العربي، ورأيناه يخلط أحرفَ مادةٍ ما, ويمزج بعضها ببعض، ويقلبها في تركيبٍ ثلاثيٍّ على جهاتها الست المحتملة، ثم ينظر إلى الحرف الواحد من أحرفها، حيثما كان موضعها منها، على أنه صوت ما يزال بسيطًا, له دلالته التعبيرية الخاصة٤. ورأيناه ورأينا غيره أيضًا عندما جنحوا إلى القول بثنائية اللفظ العربي في نشأته الأولى، يردون المواد المزيدة إلى


١ أي: لم يعرض لذلك أبو إسحاق، فقد ذكره في العبارة السابقة مؤكدًا إخلاده إلى هذا الاشتقاق الكبير، ولكنه هنا ينفي تكلفه فيه كما ترى.
٢ يقصد أبا بكر بن دريد، وقد سبقت ترجمته.
٣ الخصائص ١/ ١١.
٤ راجع ص١٤٥-١٤٦.

<<  <   >  >>