ولا يعرفان أن الإبل له، ناديا:"يا راعي, أعندك شراب تسقينا؟ " وهما يظنانه عبدا لبعضهم. فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه:"عليكما الناقة التي صفتها كذا في موضع كذا, فأنيخاها فإن عليها وطبين من لبن، فاشربا منهما ما بدا لكما" فقال أحدهما: "ويحك، انهض يا غلام فأت بذلك اللبن" فقال لهما: "إن تك لكما حاجة فستأتياها فتجدا الوطبين فتشربا" فقال أحدهما: "إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا". ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال. فقال لهما هلال:"أراكما والله ستلقيان هوانا وصغارا" فسمعا ذلك منه, فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه ورماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة، فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني. فدنا صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى. ثم أخذ برقابهما فجعل يصك برءوسهما بعضا ببعض، لا يستطيعان أن يمتنعا منه. فقال أحدهما:"كن هلالا ولا نبالي ما صنعت" فقال لهما: "أنا والله هلال، ولا والله لا تفلتان مني حتى تعطياني عهدا وميثاقا لا تخيسان به. لتأتيانّ المربد إذا قدمتما البصرة ثم لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما". فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر الذي معهما، وقدما البصرة فأتيا المربد, فناديا بما كان منه ومنهما, وكان إعلان طنان دوى في فضاء المربد.
وهكذا جمع المربد بطولة القوة والصراع والجبروت البدني، إلى جانب بطولة الشعر والأدب والخطابة، فكان معرضا تام الأداة وافي الفروع. وتم لأسواق العرب به خاتمة المزايا والكمال، وأصبح في وسع من شاء الاستمتاع بأكثر عادات العرب وأخلاقهم ودينهم وسياستهم وحربهم وأدبهم وسباقهم وصراعهم، أن يفوز بأمنيته من أقصر طريق، إذا استذكر ما كانت عليه أسواقهم في الجاهلية والإسلام.