للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان طبيعيًّا أن يخفت صوت الشعراء وإن لم يصمت، فقد ظل الشعراء المؤمنون يقومون برسالتهم في رد سهام المشركين وحماية العقيدة ونصرتها؛ إذ كانوا أعمق فهمًا لرسالة الإسلام، وأسرع استجابة لها دون غيرها.

وخفت صوت الشعر أمام المثل الإسلامية الجديدة، التي تختلف تمام الاختلاف عن المثل الجاهلية التي اعتاد الشعر تصويرها والتحدث عنها، وفقد الآن حرية التعامل بقيمها وصورها وألوانها وأجوائها، وفقدت هي -من جانب آخر- طلاوتها؛ لأنها لم تعد ذكريات فاعلة عزيزة في تكوين الفرد والجماعة الجديدة داخل إطارها الجديد، وإن ظلت جزءًا من ماضيه، يأنف منه ويزدريه.

ووجد الناس ما ينشدون من هذه المثل الإسلامية في القرآن الكريم، وإدمان القراءة فيه وتفهمه، وازداد صوت الشعر خفوتًا عندما أخذ اهتمام الناس ينتقل من قراءة القرآن وتفهمه ككتاب مقدس للدعوة الإسلامية إلى كتاب أدبي، يفوق بروعته وبيانه ما ورثوه من تليد الشعر، ويتجاوز سحره طاقة البشر ويطرح وراءه كل الشعراء المجيدين.

فهذه طائفة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم تتبدل من عنايتها بالشعر وروايته وحفظه عناية بالقرآن فائقة، وإدمانًا في النظر الممعن فيه، وهذا لبيد يستعيض عن الشعر بسورة البقرة، وهذا علي بن أبي طالب ينصح لأبي الفرزدق بأن يحفظه القرآن، وكأنما يصرفه عن الشعر صرفًا١.

وهكذا استقر في أذهان المسلمين أن أساليب القرآن تستطيع أن تسع منازعهم النفسية العميقة، وأن توحي بكثير من ألوان البيان المماثل، فوجدوا في القرآن بديلًا فنيًّا غلب الشعر على منزلته، حتى لقد صار شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ينشد في المسجد فلا يجد من يستمع إليه، ويضطر الزبير أن يهيب بهم ليستمعوا له٢. فقد كان الناس عن ذلك في شغل بالقرآن الذي استأثر بهم؛ لأن فيه ما يهيج العصبيات والحزازات التي قضى عليها الإسلام.


١ الأغاني "ساسي" ج١٩، ص٩.
٢ العمدة ج١، ص١٠.

<<  <   >  >>