للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والبطش والقوة. وإذا بهم يسوقونهم سوقًا إلى حظيرة الإسلام، ويزلزلون عروشهم، ويأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حكموا فيهم سيوفًا مؤمنة تصرعهم في كل وقعة.

أجل كان العرب في جميع أطوار حياتهم -بحيال دولتي الفرس والروم- لا يهجس في نفوسهم هاجس بالاستطالة عليهم أو مساماتهم، وإنما كان قصارى من سمت به همته إلى الملك منهم أن يكون تابعًا لهما خاضعًا لسيطرتهما، كما كان المناذرة عمالًا للفرس، والغساسنة عمالًا للروم.

ولكن، أما وقد جاءهم الإسلام بهذه الأحاسيس، فبث فيهم تلك المشاعر، ووحد كلمتهم، وأمد لهم في الأمل، فما النصر إلا من عند الله، وإن ينصرهم فلا غالب لهم. فأولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.

ولو رجعنا إلى أقوال قوادهم ورسلهم إلى كبراء هاتين الدولتين العظيمتين وقوادهما لوجدناها تنطق بهذه الآمال وبتلك الثقة، كما يظهر في قول المغيرة بن شعبة لرستم لما خوفه مغبة الأمر إذ قال: "يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم"١.

وهذا عبادة بن الصامت وقد خوفه المقوقس قوة الروم وكثرة عددهم على حين أن العرب قلة لا يقدرون عليهم يواجهه في ثقة وإيمان وبسالة بقوله: "يا هذا.. لا تغرن نفسك وأصحابك. أما ما تخوفنا به من جموع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم.. فلعمري ما هذا الذي تخوفنا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك -والله- أرغب ما يكون، في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته. وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك٢.

وتدور هذه الروح في كتب خالد بن الوليد وغيره من قواد المسلمين إلى قواد الفرس وعظمائهم. وقد سكب بعض الفاتحين هذه الروح في أشعارهم، فصوروا أعداء المسلمين وسادتهم بالأمس في صور تدل على


١ الطبري ٥/ ٢٢٧٩.
٢ المقريزي ج٢/ ٢٩٠، ابن عبد الحكم ٥٩، ٦٠.

<<  <   >  >>