للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يتخطَّفهم الموت العادي الذي لا يحمله الوباء، ويصرعهم المرض العادي الذي لا يحمله الوباء أيضًا. وفي أثناء هذا كذلك ملايين من المواطنين تنعم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة، فلا ترى ما هي فيه، ولا توازن بين حياتها وحياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى ... وكانت هذه الملايين في أثناء ذلك أيضًا تنعم بفقرها الذي يشغلها بالتماس القوت وإطعام العيال وكسوتهم، دون أن تجد ما تسعى إليه، ولكنه يشغلها على كل حال بذلك، عن التفكير في حياتها, والموازنة بينها وبين حياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى!

"كان هذا كله يحدث في الصحف من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر, بينما كان رئيس الوزراء ينبئ البرلمان بما فعلت الحكومة وبما ستفعل، موفَّقَة في الماضي والمستقبل لإنقاذ الشعب من الموت والمرض، ومن الفقر والجهل، ولتمكين مصر الخالدة المجيدة من أن ترفع رأسها العظيم الكريم بين الأمم الراقية، التي لم تبلغ ما بلغت من المجد والفخار! "١.

ومن ذلك يبين أن طه حسين حين يركِّز على القضايا المحلية التي تشغل الرأي العام, ويستخدم السخرية المرة من السياسيين المحترفين، إنما يصل قراءه بالقضايا المصرية الجادة الملحة، مثيرًا كل عوامل إثارة حوافظ الاهتمام عند هؤلاء القراء, بهدف التغيير السياسي الذي يطمح إليه المقال، ولذلك يستهلُّ مقاله بقوله:

"لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نشقَّ عليهم في القول, ونعنف بهم في الحديث, فقد يجب أن يقال الحق وإن لم يبلغ من نفوسهم موضع الرضا, وقد يجب أن يقال الحق وإن بلغ في نفوسهم موضع الغضب, وأثار في قلوبهم موجدة وغيظًا. والمواطنون الأعزَّاء قد تعوَّدوا أن يُكَالَ لهم المدح كيلًا, ويهال عليهم الثناء هيلًا، حتى رضوا عن أنفسهم أعظم الرضا، وسخطوا على غيرهم أشد السخط، وناموا ملء جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهين لاهين تتخطَّفهم النوائب وتعبث بهم الخطوب، فلا يغير ذلك من رأيهم في أنفسهم وحياتهم شيئًا؛ لأنهم قد ألفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان على حياتهم، فأصبح من أعسر العسر أن تخرجهم من هذا الرضا, أو تزعجهم عن هذا الاطمئنان.. ولا بُدَّ مع ذلك من أن يبصروا بحقائق الأمر، ومن أن يخرجوا من رضاهم, ويزعجوا عن اطمئنانهم، ويعلموا أنهم يعيشون أبغض العيش, ويحيون أبشع الحياة"٢.

وهكذا تلتقي خيوط الرؤيا الصحفية لاهتمامات القرّاء، كما تلتقي بالتقويم السياسي أو الاجتماعي والثقافي، فإذا كانت "الحياة الأدبية في مصر


١ المرجع نفسه.
٢ المرجع نفسه.

<<  <   >  >>