للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجاهلية وفي صدر الإسلام، ومقابلتها بما بلغت إليه على عهد الخلفاء من بني العباس، بعد سكوت الغارات واستتباب الفتوح، وتنبه الأمة لطلب العلوم، وتبسطها في فنون الحضارة، بحيث خرجوا بها من حال الخشونة اليدوية إلى أبعد مذاهب المدنية الشائقة لعهدها إذ ذاك، ولم يكادون يدخلون فيها لفظًا أعجميًّا١، وإلا اضطروا فيها إلى وضع جديد، ولكنها خدمتهم بنفس أوضاعها التي وضعها العرب، فاشتقوا منها ما لا عهد به للعرب على وجهه الذي نقلوه إليه، ولا نتكلم به أصلًا، حتى أحاطوا بصناعة الفرس وعلوم اليونان، وأدخلوا كثيرًا من مصطلحات الأمم التي اجتاحوها٢ شرقًا وغربًا، وزادوا على ذلك كله ما استنبطوه٣ بأنفسهم.

واللغة شايعة لهم في كل ما أخذوا فيه، لم تنضب مواردها دونهم، ولا رأينا من شكا منهم عجزًا ولا تقصيرًا، إلى أن أدركهم من تبدل الأطوار، وغارات الأقدار، ما وقف بهم عند ذلك الحد، فوقفت اللغة عندما نراه فيما وصل إلينا من كتبهم. وتوالى الاجتياح بعد ذلك على الأمة، وتتابعت دواعي الدمار، حتى اندرست أعلام حضارتها، وذهبت علومها أدراج الرياح، فزال أكثر اللغة من ألسنتها بزوال معانيها، حتى صار الموجود منها اليوم لا يقوم بخدمة أمة متمدنة، ولا هو أهل لأن يبلغ به ما منزلته تلك، ولذلك فإن كان ثمة هرم فإنما هو في اللغة لا في اللغة؛ لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاحق بها، ولا ملحق بها وهنًا ولا عجزًا٤، وإنما هو عجز في ألسنة الأمة ومداركها، وتأخر في أحوالها واستعدادها. ولو صادفت من أهلها البقاء على عهد أسلافهم من السعي في سبل الحضارة وتوسيع نطاق العلم، لم تقصر عن مشايعتهم في كل ما فاتهم من الأطوار، حتى تبلغ بهم إلى مجاراة العصر الحاضر.


١ يستثنى من ذلك كتب الطب.
٢ اجتاحوها: دخلوها بعامل الفتح.
٣ استنبطوه: اخترعوه بأنفسهم.
٤ الوهن: الضعف والتعب.

<<  <   >  >>