للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنها، ثم تضيق أوضاعها من إحداث١ ألفاظ تؤدي بها تلك المعاني، فيطرأ على اللغة النقض حينا بعد حين، إلى أن تعجز عن أداء أغراض أهلها، ولا تبقى صالحة للاستعمال، وحينئذ فلا ينبغي ألا إن يلقى حبلها على غازبها٢، أو يستعان بغيرها على سد ما عرض فيها من الخلل، بما يغير من ديباجتها، وينكر أسلوب وضعها حتى تتبدل هيئاتها على الزمن، وتصير على الجملة لغة أخرى.

وليس بمنكر أن ما وصفناه من هذه الحال يشبه في بادئ الرأي ما تشاهده من حال لغتنا اليوم، وما لم نزل ننعاه عليها منذ حين من تقصيرها عن الوفاء بمطالبنا العصرية، إلا أن ذلك إذا استغربت أوجهه وأسبابه، وسبرت غور اللغة في نفسها، وقست مبلغ استعدادها، علمت أنه ليس منها في شيء، وأيقنت أنها لا تزال في ريعان شبابها وطور ترعرها، وأن فيها بقية صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة، ولكن ما أدركها من ذلك وارد من قبل الأمة، وتخلفها في حلبة الحضارة والمدنية؛ إذ اللغة بأهلها تشب بشبابهم، وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم.

وبدهي أن اللغة توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها، وقد اختصت هذه اللغة بمزية عز أن توجد في غيرها، وهي أن أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي، بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعًا، إلا أنها من أكثرهن صيغًا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب، فضلًا عما فيه من تشعب طرق المجاز.

واعتبر ما ذكرناه من ذلك بالرجوع إلى ما كان عليه من اللغة زمن


١ إحداث: وضع.
٢ يلقى حبلها على غارمها: أي تترك وشأنها، تذهب حيث شاءت، والغارب: رقبة الجمل، وهو تعبير صحراوي.

<<  <   >  >>