للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مؤلف القاموس على استقصاء ألفاظه، حتى لم يكد يذكر مادة إلا وفيها شيء يشير إليه، ويدل عليه.

على أن اللغة مرآة أحوال الأمة وصورة تمدنها ورسم مجتمعها، وتمثال أخلاقها وملكاتها، وسجل مالها من علوم وصنائع وآداب، وإنما نضع منها على قدر ما تقتضيه حاجاتها في الخطاب، وما يتمثل في خواطرها، أو يقع تحت حسها من المعاني، ومعلوم أن العرب واضعي هذه اللغة كانوا قومًا أهل بادية، وبيوتهم الشعر والأديم١، ومفرشهم الباري٢ والبلاس٣ ولباسهم الكساء والرداء، أثاثهم الرحى والقدر، وآنيتهم القعب والجفنة٤، إلى ما شاكل ذلك مما لا يكادون يعدونه في حل ولا ترحال. فأين هم؟ وما نحن فيه لهذا العهد من اتساع مذاهب الحضارة، والاستبحار في الترف واليسار، وكثرة ما بين أيدينا من صنوف المرافق٥، وأنواع الأثاث والزخارف، وما نحن فيه من التفنن في أحوال المجتمع والمعاش، فضلًا عما بلغ إليه أهل هذا العصر من التبسط في مناص العلم والصناعة، مما كان أولئك بمعزل عن جميعه، إلا ما حدث بعد ذلك في عهد استفحال الإسلام، مما ذهب عنا أكثره، وما كان فيه لو بلغ إلينا إلا غناء قليل.

ومهما يكن من حال أولئك القوم، وضيق مضطرب الحضارة عندهم، وما يجد في ألفاظهم من ألفاظه والتقصير عن حاجات هذا الزمن، فلا يتوهمن متوهم أن ذلك وارد على اللغة من هرم أدركها، فقعد بها عن مجاراة الأحوال المصرية، وأناخ بها في ساقة الألسنة الحالية٦، فإن معنى الهرم٧ في اللغة أن يحدث عند المتكلمين بها معانٍ قد خلت ألفاظها


١ الأديم: الجلد.
٢ الباري: الحصير المنسوج من القصب.
٣ البلاس: بساط نسج من شعر الماعز.
٤ القصب: القدح الضخم يصنع من الخشب. الجفنة: القصعة الكبيرة.
٥ المرافق: الأشياء التي ينتفع بها.
٦ ساقة الألسنة: أي مؤخرة اللغات.
٧ الهرم: الشيخوخة.

<<  <   >  >>