للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المأسورة عبادة من عبادات مجردة صارت عادات، فلا تفيد تطهير النفوس شيئًا، ولا تنهى عن فحشاء ولا عن منكر، وذلك لفقد الإخلاص فيها تبعًا لفقدها في النفوس.

والاستبداد مفسد للتربية والأخلاق؛ لأنه يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتخيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس وأمانة التنفس ... إلخ. وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد سلاسل من حديد يرتبط بها الأدباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق، فالتوالد زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف.. وغالب الإسراء لا يدفعهم للتوالد قصد الإخصاب، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم، وأنهم محرمون من كل الملذات الحقيقية كلذة العلم، ولذة المجد، ولذة الإثراء، ولذة البذل.

والاستبداد يفسد الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، ويقلب الحقائق في الأذهان, وينزل بالإنسان إلى مستوى البهائم".

ثم قال: "والاستبداد مفسد لدولاب العمل نفسه في الحكومات، فالحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار دولته.

إن العقل والتاريخ والعيان: كل يشهد بأن الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه من الوزراء يكون دونه لؤمًا، وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات.. والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الدولة، كما هو الحال في الحكومات الدستورية".

ثم يقول الكواكبي بعد هذا كله:

"ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرًا، وأوزتاده عملًا، فهم رباط المستبد، يذلهم فيثنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يكثر الذل بين الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتجنب إليهم بعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغتصب قلوبهم التي يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافون خوف دناءة ونذالة، فهم لا يخسرون على الافتكار فضلًا عن الأفكار، وكأنهم يتوهمون أن في داخل رءوسهم جواسيس عليهم"١.

وهكذا وضع الكواكبي أن الاستبداد قتل مواهب الأمة الإسلامية، وأفسد كل شيء فيها، وفي مقدمتها الحرية، حتى ضعفت وهان شأنها، وهبطت مرتبتها إلى الحد الذي أزرى بها بين الأمم، وأشار إلى طريق الخلاص من الاستبداد في الأمة فقال: "إن الوسيلة الوحيدة لقطع داء الاستبداد هي ترقية الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم".

وبذا كان الكواكبي زعيمًا من زعماء الإصلاح الاجتماعي والدين، حرص في كل كتاباته أن يركز على وصف العلة، ويدور حديثها حولها حتى يوضح آثارها السيئة على الفرد والجماعة والمجتمع، فينتبه المواطن لخطرها، فيبتعد عنها ويتخلص منها، وحينئذ يصبح المجتمع نقيًّا نظيفًا.


١ راجع: طبائع الاستبداد ص٩٣ وما بعدها.

<<  <   >  >>