لهجات عبر الزمان١. وكلا العاملين "التطور الفطري والانقسام إلى لهجات" يعوق تحقق الغاية العملية للغات وهي الاتصال وإن الصيغة المكتوبة بفرضها مستوى معينًا من الصواب -مهما كان تعسفيًا- تعطل حركة هذين العاملين وتعوق فعاليتهما، إنها تحرك قوى مركزية جاذبة -ولو صناعية- تعادل القوى المركزية الطاردة الموجودة في اللغة. اللغة المكتوبة إذن تساعد على تحسين وسائل الاتصال -حتى في مجالات التفاهم الشفوي- بين أعضاء الجماعة اللغوية الواحدة "إن فائدتها -على الأقل- تتمثل في إضفاء روح اللغة الأدبية المشتركة -التي تتمتع باهتمام الدارسين- على اللغة المتكلمة ليسهل التفاهم بها، وإلا فإنه من المشكوك فيه أن يتمكن رجلان فرنسيان أحدهما من الشمال والآخر من الجنوب من أن يتفاهما بسهولة وفي الصين حيث نعد لغتها المكتوبة معقدة، تتقطع الصلة بينها وبين لغة الكلام بشكل عاق تفاهم الصينيين من ذوي اللهجات المختلفة بعضهم مع بعض.
وإنه من المحتمل -في المستقبل القريب- أن يزيد نفوذ الاتجاه المحافظ المعياري الذي تمثله الصورة المكتوبة للغة، والذي أخذ في الظهور منذ عهد قريب عن طريق الوسائل الفعالة المنتشرة للاتصال الشفوي، مثل أجهزة الراديو والتليفزيون والأفلام الناطقة، ولهذا فإنه في معظم البلاد المتحضرة قد ظهرت للغة الكلام صورة أدبية إلى حد ما، أو هي في طريق الظهور.
١ اللغة اللاتينية التي كانت تتكلم أصلا في "روما" والأماكن المتاخمة لها تغيرت على أرض وطنها وتحولت أخيرا إلى لهجة روما الحديثة الإيطالية. وكذلك بعد انتشارها في معظم أجزاء الجنوب الغربي الأوربي انقسمت إلى الغالية والأيبيرية وغير ذلك من لهجات لاتينية عامية، هذه اللهجات تطورت فيما بعد وصارت لغات فرنسية وإسبانية وبرتغالية ... إلخ وهذه بدورها انقسمت إلى لهجات مختلفة، وإن إنجليزية القرن السابع عشر بلهجاتها المتعددة لم تتطور فقط إلى لهجات القرن العشرين المختلفة على أرضها وحدها، وإنما أفسحت الطريق كذلك لأشكال من الإنجليزية الأمريكية انقسمت بدورها إلى لهجات إقليمية.