ونحن نجد الجوهر اللغوي في هذه العبارة، يبدو في صورة متعددة، والتشكل غير غريب على الجوهر الفلسفي المنطقي أيضا، والذي أحب أن أشير إليه هنا هو أن ابن جني لا يرى في كل هذا التعجرف تعجرفا، ولا ف يكل هذا التهكم على الحروف تهكما، وإنما يراه صنعة وتلطفا، كما رآه النحاة من قبل ومن بعد.
ولم يعن النجاة بجوهر الكلمة فحسب، بل انساقوا أيضا إلى التفكير في جوهر الجملة، فاخترعوا فكرة تقدير ما غاب من هذا الجوهر، والتقدير بلية فلسفية ميتافيزيقية، ومنطقية ابتلي بها النحو العربي ولا زال يبتلى، ومن الطلائع الذين هاجموا الكثير من الأفكار التقليدية في النحو العربي، ومنها التقدير ابن مضاء القرطبي.
ومن كلامه في ذلك١:"فإن قيل: فما تقول في مثل "زيد قام"، إذ قالوا: إن في قام ضميرا فاعلا؟ وليس داع يدعو إلى ذلك إلا قول النحويين: الفاعل لا يتقدم ولا بد للفعل من فاعل، وقولهم هذا لا يخلو من أن يكون مقطوعا به أو مظنونا، فإن كان مظنونا، فأمره أمر الضمير المدعي في اسم الفاعل، وإن كان مقطوعا به صح هذا الإضمار، ولابد أن يتقدم قبل الكلام في هذا الموضع مقدمات تعين الناظر فيه على ما قصد تبيينه، وهي أن الدلالة على ضربين: دلالة لفظية مقصودة للواضع، كدلالة الاسم على مسماه، ودلالة الفعل على الحدث والزمان، ودلالة لزوم، كدلالة السقف على الحائط، ودلالة الفعل المتعدي على المفعول به وعلى المكان.
ودلالته على الفاعل فيها خلاف بين الناس، منهم من يجعل دلالته عليه كدلالته على الحدث والزمان، ومنهم من يجعل دلالته عليه، كدلالته على المفعول به، فإذا قيل "زيد قام"، ودل لفظ "قام" على الفعال دلالة قصد، فلا يحتاج إلى أن يضمر شيء؛ لأنه زيادة لا فائدة فيها"، ولا شك أن ابن مضاء مصيب فيما يقول، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يسلم من قيود المنطق، حين تكلم عن الدلالة اللفظية دلالة اللزوم، والدراسات اللغوية لا تعترف بدلالة اللزوم، وإنما تعتبر دلالات الألفاظ بذواتها، وتأخذ الفعل الماضي "قام" على أنه صورة دلت على المفرد الغائب
١ كتاب الرد على النحاة نشره، وحققه الدكتور شوقي ضيف ص١٠٣.