وأدق إلى أن يكون تعبيراً عن جهلنا وقصورنا؟ ثم أليس يدل هذا ومثله - وهو كثير في علم الفلك خاصة - عام ضآلة مدى العلوم التجريبية من ناحية، وعلى صعوبة إدراك حقائق الأشياء الأصيلة من ناحية أُخرى؟ إن العقل يستطيع أن يوصلنا إلى تسخير بعض الظواهر والطاقات وتطويعها لمصلحتنا, ولكنه لا يوصلنا إلى حقائق هذه الظواهر والطاقات. أليس الكفر بالله وبالأديان، نتيجة لهذا القليل الذي أتيح لنا الوصول إليه، من آثار الكشوف الأخيرة، لوناً من البَطَر ومن الغرور الذي يدرك ضعاف النفوس حين يصيبون حظاً قليلاً من النعمة أو القوة، فيظنون أنفسهم أرباباً ويظنون أنهم يستطيعون كل شيء؟
حقيقة الأمر في هذه العلوم التجريبية أنها مفيدة في ميادينها المادية فحسب، ولكنها غير صالحة لأن تعالج عالم المجرَّدات الذي لا يخضع للحس لأنه لا يخضع لتجاربها. وذلك هو ما يسميه الإِسلام عالم (الغيب) أي ما غاب عن الحس. ونحن مكلفون فيه بأن نؤمن بما جاء به الدين, لأنه هو السبيل الوحيد إلى معرفته وإلى تحديد موقفنا منه وما فيه فائدتنا بالقياس إليه. فميدان الدين إذن غير ميدان العلم التجريبي. فالأول يستأثر بعالم الغيب، ويدبر شؤون حياتنا على أساس الصلاحية لما بعد هذه الحياة، مما لا يتعارض مع مصالحنا في هذه الدنيا. والثاني لا يتعدى عالم الشهادة، أي ما يخضع للمشاهدة والحس. والمفروض مع ذلك أن الِإدراك الصحيح لحقائق المشاهد الملموس يهدينا إلى ما ينطوي عليه من نظام دقيق معجز، كما يقودنا إلى إدراك عجزنا أمام كثير جداً من المعضلات، وهو عجز لا مفر معه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى. وليت كاتب هذا المقال وأمثاله يقرؤون قول كبير من رجال العلم المظلوم. الذي يحمِّلونه أوزار كفرهم وضلالاتهم. ليته يقرأ قول أنيشتين: (إن أجمل الأحاسيس وأعمق العواطف هي تلك التي نتعرض لها عند بحث الخفايا, لأنها تؤدي إلى العلم الحقيقي. وكل من ينكر هذه الأحاسيس، ولا يتعرض للدهشة أو للرهبة، فإِنه يعتبر في عداد الأموات. والمؤمنون هم الذين يعلمون أن هناك أشياء تخفى على علمهم. وهذا هو غاية الحكمة، وأقصى درجات الجمال المشع التي تستطيع حواسنا القاصرة إدراكها