والحرية أو استقلال الشخصية التي يدعو إليها هذا الهدام هي حرية تقوم على الغلو المفرط في الفردية، ويستطيع القارئ أن يلمس بوضوح في كل مقالات الكتاب أن وراء كل سطورها إسرافاً في تقدير الفرد والفردية والحرية الشخصية في السلوك وفي التعبير عن الرأي، ينتهي إلى أن يسمح كل إنسان لنفسه بأن يبني عالماً مستقلاً به من القيم لا يستوحي فيه غير خياله وأوهامه. مثل هذا الكلام لا يصدر إلَّا من هدام محترف, لأنه يقتل الروح الجماعية التي هي أساس كل تماسك اجتماعي، والتي أدَّى فقدانها إلى ما يعانيه الناس الآن من فوضى واضطراب. فلو سُمِح لكل فرد من الناس أن يبني لنفسه عالماً مستقلاً من القيم لأصبحت مقاييس الخير والشر مقاييس فردية، فلا يكون هناك شر هو عند كل الناس شر، ولا يكون هناك خير هو عند كل الناس خير، وعندئذ لا يصبح هناك مجتمع، ولا يكون هناك إلَّا الفوضى والخراب.
والأمثلة على هذه الدعوة اطيدأمة التي هي بمكان اللب من هذه المقالات التي ترجمتها الجامعة العربية بمشورة السفارة الأمريكية تملأ الكتاب، أستطيع أن أقدم بعض نماذج منها على سبيل التوضيح لا الحصر.
يقول إمرسون مخاطباً قراءه (وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب، وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين والقديسين والأنبياء - وتأمل أين يضع هذا الملحد الهدَّام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه - لكي تقتدوا بهم. أشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم "أنا كذلك إنسان" ... إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج ... كل منكم مُنْشِدٌ من منشدي الروح التدليل وُلد حديثاً، فلينبذ وراءه كل تقليد وليعرِّف الناس مباشرة بالله - ص ٨٥). وواضح من هذا الكلام أن ذلك المفسد المضل يريد أن يجعل كل الناس أنبياء، معتمدًا على ضعف المغرورين والمفتونين، الذين يريد أن يخيِّل إليهم أنهم لا يُثِبتون وجودهم إلَّا عن طريق