الظروف ملاءمة لبث سمومهم، إذ يلبسون ثياب الناصحين، ويندسون في غمار الثائرين الذين يريدون أن يستبدلوا بأسباب الضعف والفساد أسباباً للحياة والقوة والبناء، كما يندس المخرِّبون والمأجورون من عملاء العدو وسط جموع المظاهرات يحطمون المصابيح ويحرقون المنشآت، فيقلدهم غيرهم في صنيعهم دون تمييز بين ما يصلح تحطيمه وما يضر تحطيمه.
بقي بعد ذلك كله أن أشير إشارة موجزة إلى مصدر هذه الدعوة، كيف بدأت ومن أين ثارت، فقد يعين ذلك على تقديرها وعلى تصور مبلغ ما تنطوي عليه من الصدق والِإخلاص والجراءة من الهوى. لم يُسمَع لداعٍ بهذه الدعوة صوتٌ قبل القرن الأخير. وكل ما كان قبل ذلك من إشارة إلى العامية أو ما كان يسميه قدماء المؤلفين (خطأ العوام) فقد كان المقصود منه تقويم اللسان والتنبيه إلى الخطأ، لا الاحتفاء بألفاظ العامة وأساليبهم وتسجيلها والدعوة إلى معارضة لغة القرآن بها. فالدعوة لم تنشأ إلا في ظل استعباد الغرب لبلاد العرب والمسلمين وفي حمايته من ناحية، وفي حضانة التبشير من ناحية أخرى. ويكفي أن أذكر في ذلك على سبيل الاختصار أسماء سبتا (Wilhelm Spitta) وفولارز (K. Vollers) وباول (A.powell). وفيلوت (D.c. Philott) وبوريان (M.Bouriant). وماسبيرو (M.Caston Maspero) الذين قادوا هذه الدعوة في مصر منذ سنة ١٨٨٠ فظهر صداها في صحيفة المقتطف الشهرية أولاً سنة ١٨٨٢ (١) ثم انتقل إلى بقية السماسرة.
جمع بعضُ هؤلاء المؤلفين أو الدعاة على الأصح - وكلُّهم ممن شغل وظائف عامة في ظل الاحتلال الإِنجليزي لمصر - طائفة من الأمثال والأغاني والمردَّدات السوقية في مختلف "الموضوعات" ونادوا باتخاذ اللهجة التي كُتبت بها هذه الآثار لغةً للتدوين والتأليف والأدب الرفيع. ووضع بعضهم الآخر كتباً
(١) صلة فارس نمر صاحب المقتطف بالاحتلال الإنجلبزي مشهورة معروفة. وقد كان المستر سمارت مستثار السفارة الإِنجليزية - أو دار المندوب السامي كما كانت تسمى وقتذاك - زوجاً لابنته.