إن سببه هو زعم الزاعمين أنها معقدة, لأنه قد صرف الناس عن إتقانها إلى التنقل بين تجارب فجة غير ناضجة، وأعان على إقرار ما يتوهمه التلاميذ والمدرسون من صعوبتها، بل اختلق هذا الوهم نفسه بعد أن لم يكن. والدليل على ذلك أن الجيل السابق لهذا الجيل - وهو جيل لا يزال كثير من أفراده أحياءاً - أحسنُ إتقاناً للعربية، رغم أنه قد نشأ في ظل الاستعباد الإِنجليزي وبرامجه، أو في ظل سياسة التتريك التي جُن بها دعاة الطورانية من الاتحاديين. وحَسْبُ الداعين بهذه الدعوة هزالاً وفشلاً ما اقترحوه على المدارس الإِعدادية في العام الماضي من قواعد بيِّنةِ الضعف والفساد والهزال، مما أرجو أن أعود للحديث عنه في غير هذا المقال. لم يزالوا يطبلون ويزمرون ويطنطنون ويهولون، فلما رأى الناس المولود الذي كانوا يبشرون به من قبل قالوا (تمَخَّضَ الجَبَلُ فَوَلَد فأراً).
ولكي ندرك خطر هذه الدعوات ونفهم حقيقة مغزاها لا بُدَّ لنا أن نقرنها إلى أمثالها. فننظر إليها في ظل ما نسمعه من الدعوة إلى تطوير عاداتنا وتقاليدنا، وتطوير أدبنا، شعرِه ونثره، شكلاً وموضوعاً وأسلوباً، وتطوير ألحاننا وأغانينا، وتطوير زِيِّناً نساءاً ورجالاً، وتطوير قِيَمنا ومُثُلنا الأخلاقية والاجتماعية، وتطوير تشريعنا بل تطوير إسلامنا نفسه. مَن أجال النظر في هذا كله وقرن بعضه إلى بعض عرف أن أصل هذه الفروع واحد، وأن روح الدعوة فيها جميعاً واحدة، وأن أصحابها لا يقنعون إلا بقطع كل ما يربطنا بإِسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا من وشائج وصلات. عند ذلك نفقد طابعنا الذي يميزنا بوصفنا جماعة أو قوماً أو أمة. وإذا فقدنا طابعنا فقدنا كياننا، وفقدنا القدرة على التكتل والتجمع، وأصبح من اليسير على الشرق أو الغرب أو كائناً مَنْ كان من خلق الله أن يلحقنا به ويجعلنا تابعين له، ندور في فلكه ونسبِّحُ بحمده من دون الله.
والقائمون على ترويج هذه الدعوات كالجراثيم، تكمن حين تأنس من الجسم مقاومة حتى يظن المريض أن الداء قد ذهب عنه، ولكنها تتحصن في واقع الأمر حتى تجد فرصة أخرى ملائمة للظهور فتثور. وقد نشط أصحاب هذه الدعوات في السنوات الأخيرة, لأنهم يعرفون أن الثورات هي أكثر