للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- بل المسلمين - على قواعد موحدة، دون أن تحملهم على ذلك قوة قاهرة أو تلزمهم به سلطةٌ منفذة، أو تقوم على نشره دعاية تروِّجه وعصابات تسوق الناس إليه، هذا الاجتماع على قواعد موحدة في النحو والصرف والبلاغة بعد أن كانت مدارسها متعددة هو وحده الدليل الحي الذي لا يُنقَض على صلاحية هذه القواعد، وعلى أن هذه الدعوات إلى تغييرها بدعوى التيسير أو الِإصلاح هي دعوات مفتعلة يروجها هدامون وينساق وراءها مغفلون. ولو كان القصد هو التيسير حقاً لقنعوا بصنيع لجنة (حفني ناصف، ودياب، وطموم، ومحمود عمر، وسلطان مُحَمَّدْ) في كتاب (قواعد اللغة العربية لتلاميذ المدارس الثانوية)، الذي ظلت مدارسنا تتداوله سنين طويلة. فقد نجحت هذه اللجنة في حصر قواعد النحو والصرف والبلاغة في كتيِّب صغير لا يتجاوز مائة وأربعين صفحة، خال من التعقيد، يفي بحاجة التلاميذ والمتعلمين. وقد كان صنيع الجارم من بعد ذلك حسناً حين يسّر هذه القواعد ومهّد لها بالأمثلة الكثيرة، وأعان على إقرارها بالتمرينات المتعددة، وكان ذلك كله في حدود القواعد التي أثبتت ألف سنة صلاحيتها، والتي استطاع العرب بفضلها وحدها - ولا شيءَ سواها - أن يخرجوا في القرن الأخير هذا الجيش الضخم من الشعراء والأدباء والنقاد الذين بلغ بعضهم مستوى أندادهم الأقدمين في أزهى عصور الشعر والأدب العربي. وذلك من بعد أن أدرك الضعف العربية حتى كاد يدنيها من القبر. كيف وُجد البارودي وشوقي؟ وكيف نشأ مُحَمَّدْ عبده وطبقته من الكتاب؟ وكيف وُجد الرافعي والمنفلوطي؟ بل كيف وُجد المنادون بهذه البدع أنفسُهم أمثالُ طه حسين وإبراهيم مصطفى؟ كيف استقامت ألسنتهم وصحت أساليبهم؟ وذلك من بعد الركاكة التي تتمثل في كاتب كالجبرتي يُعتبر من أحسن كتّاب عصره؟ هل أتقن هؤلاء العربية عن طريق آخر غير قواعد النحو والصرف والبلاغة التي يزعم الزاعمون اليوم أنها معقدة وغير صالحة؟ فأيهما نصدِّق؟ هل نصدق واقعاً قائمًا ماثلًا راسخاً قديماً أثبتته ألف سنة وأعادت إثباته وتأكيده تجربة القرن الأخير؟ أم نصدق مزاعم لم نر من آثارها منذ ظهرت إلا الشر وإلا التدهور والانحطاط في مستوى تدريس العربية؟ إن انحطاط مستوى الجيل الحاضر في اللغة العربية أمر واقع، ولكن سببه ليس هو صعوبة القواعد (القديمة)، بل

<<  <   >  >>